اراء و مقالاتمقالات وآراء

الأردن عندما يفقد «السخاء الضريبي» ويتوسع في تحقيقات المال: الاتجاه إجباري والكلفة سياسية دائماً

يبدو أن عدم وجود خلفية سياسية وفق الرواية الرسمية الأردنية لسلسلة التحقيقات المالية المتعددة والمتنوعة التي تنمو.. لا يشكل ضمانة أكيدة لعدم حصول تداعيات سياسية الطابع.
الملف المتدحرج، مثلاً عندما تعلق الأمر بقرارات حجز مالي على ذمة تحقيقات، يؤثر في ملف الانتخابات من حيث التوقيت، ويمنع بسبب شمول عائلات شخصيات برلمانية بارزة دورة استثنائية كانت مطلوبة للبرلمان.
ذلك الجزء من الكلفة السياسية الذي تتحمله البلاد، أغلب التقدير أن الدولة تعرفه، لا بل يمكن القول إنها تجازف به مقابل قيمة أرفع لها علاقة -حسب مربع القرار- بالشفافية المالية، وببقاء أسئلة الفساد والتجاوز عالقة دون حسيب أو رقيب.
حتى عندما تنفي الحكومة الخلفيات السياسية، لا يمكن لومها؛ لأنها تتعامل مع حقائق ووقائع ووثائق وأرقام. لكن هذا النفي يؤكد أحياناً قواعد وجود لعبة سياسية تقتضيها المرحلة، ترسم فيها الاعتبارات والأولويات ليس فقط على أساس خارطة التموضع الداخلية، ولكن أيضاً على أساس بوصلة الإقليم والتطورات الدولية، وحصرياً تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، حيث زحام من المقترحات والأفكار أقل كلفة وتأثيراً يؤثر في مجريات الأمور، وأحياناً في مصالح الدولة العليا.
سياسياً ووطنياً وإعلامياً، تخوض الحكومة الأردنية معارك عدة في الوقت نفسه. فمن جهة.. كورونا وتداعياتها، ومن جهة أخرى متطلبات البقاء دون الخطر الكبير وبائياً، ومن جهة ثالثة أولويات الاستعصاء الاقتصادي والمالي، ورابعة.. بوصلة التعايش مع موجات صفقة القرن ومشروع الضم الإسرائيلي.
بمعنى آخر، تدار مسألة التحقيقات المالية ضمن حزمة لا يستهان بها من التقاطعات، فكلفة الرواتب الشهرية على الخزينة تبلغ نحو نصف مليار دينار، وكلفة إدامة القطاع العام وخدماته للشعب تحتاج إلى مئة مليون دينار أخرى، هذا بعد تجميد النشاط في الإنفاق الرأسمالي، وبعد أن مالت بوصلة الدولة بوضوح شديد في بادية ظهور أزمة كورونا إلى حماية المواطن والأرواح بدلاً من عوائد الضريبة والنشاط الاقتصادي على الخزينة، التي قدرت بعشرات الملايين من الدولارات.
مثل هذا التغيير الكبير في الخارطة والاعتبارات يجعل خيار استعادة مال الدولة، إن أمكن وفي المساحات المحتملة وزراعة أسس أكثر شفافية في المسألة المالية، اتجاهاً سياسياً بامتياز لا يعبر فقط عن رغبة المؤسسات الدولية المانحة، بل يعبر أيضاً عن عدم وجود خيارات، لا بل عن خيار «وجودي» بالنسبة للدولة وليس الحكومة فقط، يحاول تجنب اللجوء إلى وصفة الحكومات الأسهل، مثل رفع الضريبة والأسعار، ويتجه نحو تفعيل ذراع القانون في مراقبة وملاحقة ومتابعة المال المهدور، وعلى أساس واحد فقط سمعته «القدس العربي» في أروقة القرار المختص، وهو عدم وجود بدائل حقيقية مع تفعيل منظومة التكافل الاجتماعي في إطار القانون.
والحديث هنا بطبيعة الحال عن عدم توفر هوامش للقبول بما كان يحصل في الماضي على صعيد السخاء الضريبي والإعفاءات وصرف النظر عن التهرب الضريبي.
والحديث أيضاً عن تحقيقات رسمية قانونية يحسم فيها القضاء وليس السلطة التنفيذية، وعن ضرورة اللعب مالياً بقواعد نظيفة بعيداً عن حركة الأموال غير الشرعية أو الغسيل والكي بكل تصنيفاته، حيث سمعة النظام المالي والمصرفي وقطاع الاستثمار البنيوي على المحك .
على الأقل، هذا ما يقوله المسؤولون خلف الستارة في تفسير الاضطرار للوقوف على عتبة تكريس المنافسة الاقتصادية والشفافية المالية، إلى جانب تأسيس قواعد في إطار القانون للتعامل مع المال والاستثمار، الأمر الذي يفسر خشونة وغلاظة بعض التحقيقات والمداهمات في بعض المفاصل، فالخيار وجودي، وهذا ما يقال في الغرف المغلقة. والبلاد لا تستطيع المجازفة برفع الضرائب والأسعار على المواطنين .
والخطة المالية والحكومية لها علاقة بتعزيز النمو الاقتصادي على أساس منهجية ضريبية لا تتعلق بالجباية من صغار المكلفين، بل تلجأ إلى أساس فكرة الضريبة في العالم، وهي ضريبة الدخل على الأثرياء والميسورين تجنباً لرفع ضريبة المبيعات التي تختص بالفقراء والبسطاء بالعادة.
يريد مطبخ القرار اليوم وقف الهدر بالمال العام، وهي مسألة أصبحت أقرب إلى تهمة تشير إليها بيانات المؤسسات المانحة وتحرشات المعارضين في الخارج البائسة وتشغل الحراك والشارع. لكن هذه الإرادة تصطدم بوقائع النميمة في الصالونات السياسية .
وليس صحيحاً أن المواجهة في سياق ملف تحقيقيات المال المتدحرج تخلو من كلفة سياسية، فالحديث في النهاية عن مراكز قوى في الواقع المالي والاقتصادي والتجاري، لديها «مخالب» في الإعلام البديل وأحياناً الموتور، وقدرات مفترضة وتم تسمينها وتغذيتها عبر سلسلة طويلة من التقديرات البيروقراطية وحتى الأمنية أحياناً في الماضي.
ما يبدو عليه مشهد الأردن اليوم هو مفارقة خاصة بكلفة سياسية بالتأكيد، فالدولة تريد أن توقف السخاء والكرم، وقرت تحت ضغط الأزمة المالية الخانقة، بعد فيروس كورونا وفتح أعينها فجأة، ببعض الاتجاهات. وذلك بطبيعة الحال لا يعجب المتضررين، ويبرز أحياناً بوسائل وتقنيات يمكن ببساطة تسجيل الملاحظات ضدها أو عليها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى