اراء و مقالات

«أردنة» الإدارة و«السطر المخفي»: «ولاء أم مهنية؟»

مفهوم الخدمة العامة هو الغائب الأكبر في مجمل جدل الإصلاح الإداري عن الحوارات والمصارحات والتجاذبات، لأن الموظف الحكومي في النهاية والذي تدار عمليات وخدمات القطاع العام عبره لا يبدو راضيا ولا يتصرف على أساس مفهوم الخدمة العامة

أي متصفح لأوراق التقرير الخاص للجنة الإصلاح في الأردن يدرك مبكرا ودون استعجال وبصورة ملموسة، أن التوصيات والحلول والمراجعات التي جرت بعد عصف ذهني استمر لعدة أسابيع لمجموعة خبراء تناصل لمغادرة قاعدة «أوراق لا تساوي ثمن الحبر».
الوصفات المقترحة أغلبها قديم.. بعضها مكرر.. جزء منها «غير قابل للتطبيق» والجزء الأخير يكرس النكران ولا يعتمد «الحقائق العميقة» وإن كانت الطروحات تبدو منظمة ومنهجية عندما يتعلق الأمر بمحور التشابك بين التشريعات الناظمة للإدارة وبين الإجراءات والممارسات والصلاحيات.
الاعتقاد جازم بملف الإصلاح الإداري في الأردن بأن المسألة قد لا تتعلق حصرا بأي إجراءات أو توصيات مقترحة، فالمنظومة الإدارية تتراجع لا بل تتهاوى برأي الخبراء.
ونتجت عن ذلك سلسلة من التعقيدات والمشكلات، والمطلوب قبل تأسيس حوافز للموظفين المبدعين ودمج وزارات بأخرى ثم التراجع عن الدمج لأسباب سياسية الإصرار على تغيير العقيدة البيروقراطية ونبذ آلية «المحاصصة».
يبدو أن تقرير اللجنة يسقط «مفهوم الخدمة العامة» وهو الأساس حيث جهاز الخدمة العامة بالعادة في الدول الديمقراطية لا بل في الدول نصف أو ربع الديمقراطية أيضا معزول عن الأحزاب الحاكمة وعن أجهزة الحكومة ويعمل في إطار أداء بيروقراطي لا يتأثر بالتجاذبات السياسية.
مفهوم الخدمة العامة هو الغائب الأكبر في مجمل جدل الإصلاح الإداري عن الحوارات والمصارحات والتجاذبات، لأن الموظف الحكومي في النهاية والذي تدار عمليات وخدمات القطاع العام عبره، لا يبدو راضيا ولا يتصرف على أساس مفهوم الخدمة العامة ووظيفته هي محصلة لـ«حقه على الدولة».
يعلم خبراء الإدارة أن بعض الدول مثل العراق ومصر والسعودية إختارت طريقا سهلا لانجاز إصلاح بنيوي في خدمات القطاع العام، بعدما أدركت أن المسألة عقيدة إدارية وذهنية بيروقراطية.
لجأ المصريون مثلا ومعهم غيرهم في دول الخليج الى إقصاء وإبعاد غالبية ساحقة من الموظفين البيروقراطيين المتكدسين والكلاسيكيين، مع العمل على تدريب وتأهيل مجموعات على الأقل في المشاريع الحيوية من الشباب أو الخريجين الجدد للعمل، وفقا لأكثر أنماط الإدارة والخدمة العامة تطورا وعصرية.

مفهوم الخدمة العامة هو الغائب الأكبر في مجمل جدل الإصلاح الإداري عن الحوارات والمصارحات والتجاذبات، لأن الموظف الحكومي في النهاية والذي تدار عمليات وخدمات القطاع العام عبره لا يبدو راضيا ولا يتصرف على أساس مفهوم الخدمة العامة

تلك عمليا كانت مبادرة سياسية وليست إدارية فقط لأن الحديث عن إصلاح التشريعات ومراجعة اللوائح وإزالة المتشابك بين النصوص وإدماج مؤسسات وإنتاج أخرى وإلغاء وزارات حديث قديم ومكرر، وإلى حد ما مل منه الأردنيون عموما، بينما الأسرع هو إرادة سياسية تقول ضمنيا بأن أفواج الموظفين من الحمولة الزائدة والذين تم تعيينهم في مواسم وفترات لأسباب إما أمنية أحيانا او أسباب اجتماعية ونادرا لأسباب إدارية ومهنية.. هؤلاء وبدون الاستغناء عنهم أو المساس بدخولهم ورواتبهم ومصالحهم يمكن إقصاؤهم قليلا بقرار سياسي إداري أو تحسين وتطوير مهاراتهم، مقابل تأهيل وتدريب طبقة جديدة من الشباب العصريين، حيث الأردني الشاب بإمكانات ومؤهلات كبيرة وملموسة ويبحث فقط عن حكومة جادة في التعامل مع تأهيله وتدريبه.
على كل حال الإصلاح الإداري مثل غيره من مسلسلات الإصلاح يحتاج أيضا لغطاء سياسي ولحكومات جادة.
وأحد كبار خبراء الإدارة الأردنية لاحظ مبكرا أن بعض الأعضاء الذين اختارتهم الحكومة لوضع وثيقة تحت عنوان الإصلاح الإداري، ليسوا من أبناء القطاع العام، ولا يعرفون شيئا عن ما يجري في أروقة المكاتب التابعة للموظفين، حيث مؤسسات فيها فائض من موظفي الحمولة الزائدة يصل الى نسبة 80٪ مثل بلدية العاصمة عمان، ووفقا لقادتها وأركانها وحيث بعض المؤسسات فيها مقاعد وكراس أقل من عدد الموظفين وحيث المسألة ذهنية وثقافية بإمتياز قبل أي إعتبار آخر.
وعمليا بهذا المعنى لا يصلح الحديث عن أزمة الإدارة العامة في الأردن بدون معرفة ما الذي حصل مع جهاز الإدارة الحكومي والقطاع العام بعد عام 1988.
وهي إشارة لا أذيع سرا إذا قلت بأني سمعتها مباشرة أو همسا من أحد كبار المسؤولين حيث الاعتقاد بأن مشكلة الإصلاح الإداري في الأردن بدأت وولدت ونشأت ثم ترعرعت تحت عنوان شعار يعرفه البيروقراطيون الخبراء القدامى وهو «أردنة» القطاع العام بمعنى إبعاد العديد من المكونات الاجتماعية عن جهاز الإدارة العامة وبنسبة كبيرة، مما أسس لثقافة سلبية في الخدمة العامة، وانتهى بشعور الموظف بأن وظيفته حق له على الدولة و بأنه غير مطلوب منه العمل بجدية. طبعا هنا لا يمكن التعميم.
بعض توصيات الإصلاح الإداري التي إطلعنا عليها وقرأناها طموحة، وبعضها الآخر مفيد بالتأكيد وينطوي على تشخيص جريء للواقع الإداري لكن الإشكال في تلك العقيدة التي دفعت باتجاه إقصاء مكونات اجتماعية عريضة ثم تجنبت التأهيل والتدريب ثم انتقلت الى تأثيرات الانتخابات وهندستها ودور النواب السلبي بالعادة في الدفاع عن الموظف السلبي قبل أن يغيب عن كل مطبخ القرار التفكير بالإعلاء من شأن المهنية والكفاءة على حساب الولاء المسموم، وهو ما يحصل ولا يريد المسؤولون الكبار القول بأنه يحصل الآن.
الحلول تبدأ من مراجعة المحاصصة المسيطرة والعودة قدر الإمكان لمربع «المهنية والأداء»…دون ذلك طحن للهواء وتغليف للغبار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى