اراء و مقالات

الأردن: العلاقة بين الدولة والمواطن

رفع شأن المهنية ولو على حساب مقولات الولاء والانتماء أحيانا مطلب ملح وأساسي لأن الإدارة الأردنية العامة التي كانت قائدة ورائدة ومتفوقة قبل نصف قرن تتراجع إلى حد مقلق جدا لا بل مرعب

شعرت بحرارة الاحتكاك بين أصابع رئيس الوزراء الأردني الدكتور بشر الخصاونة وهو يصفق بحماس لصبية كركية قالت «لن أغادر.. لا يحرث الأرض إلا عجولها». تلك مقولة معاكسة لقصة مألوفة عند الأردنيين قال فيها رئيس وزراء سابق لشاب خطط للهجرة. « لا تهاجر يا قتيبة».
حتى أنا وددت لو صفقت لأن صورة الولاء والانتماء حماسية لكن الانتماء الحقيقي للأرض لا يحتاج لتصفيق ولا تعبر عنه فرقة إنشاد وليس أغنية أو أنشودة بل ممارسة من جهة الحكومة قبل المواطن.
لو كنت «رئيس وزراء -لا سمح الله – « لما بالغت في التصفيق بقدر ما انشغلت بطريقة أو صيغة تجعل تلك الصبية الكركية المدهشة التي تحدثت بصراحة ووطنية منهمكة في التعبير عن انتمائها الحقيقي بمعنى علاقة إنتاجية حقا بين دولة ومواطنة تخدم فيستفيد منها الوطن وتستفيد هي منه.
أقدر شخصيا بأن ابنتنا المحامية هنا لا تحتاج لتصفيق حار بقدر حاجتها لقرار جريء لا يقف عند صناعة فرصتها لكن يتجاوز في اتجاه مؤسسة وطنية تحترم قيمة المهنية في الإدارة تأخذ بيد الصبية وأقرانها بسلاسة وسلامة وعدالة لكي تشارك دولتها في مشوار الإنتاجية. الكلمات الطيبة مطلوبة للإفراط أحيانا بالحماس الوطني. لكن صناعة وإنتاج مكان لتلك الشابة في سياق مفهوم الخدمة الوطنية العامة أفضل بكثير من التصفيق لها او التأثر بخطابها وأبعد من تلك النظرات التي اجتاحت بعض الوزراء المرافقين الذين يهزون رؤوسهم تأثرا بتأثر رئيس الوزراء بدلا من وضع خيار لسيناريو استراتيجي بين يديه يوفر فرصة مهنية عادلة لتلك الصبية وغيرها. طبعا ودوما لا يحرث الأرض إلا عجولها. طوبى للأرض ومرحى لعجولها لكن مضمون العبارة يصبح أعمق بكثير إذا ما توقفنا عن ترديدها فقط وانتقلنا الى العمل ضمن مفهوم العجل الذي يحرث أرضه من أجل المستقبل.
تحتاج الإدارة الأردنية العامة الى ما هو أبعد وأعمق من تصفيق وتأثر وعبارات حماسية طيبة. مشكلات الإدارة كبيرة ولا يعالجها التصفيق ولا الكاميرات التي ترافق المسؤولين والوطن اليوم في حاجة لعمل ومواطنين منتجين ومهنيين أكثر من حاجته لترديد بعض الأغاني.
الولاء والانتماء تحصيل حاصل لكنهما مهما قيل عنهما وبهما لن يؤديا إلى تطوير ولو أداء موظف واحد لا يريد أن يعمل. نعم الإدارة العامة تحتاج لما هو أهم وأعمق من برامج تشغيل أو توظيف.

رفع شأن المهنية ولو على حساب مقولات الولاء والانتماء أحيانا مطلب ملح وأساسي لأن الإدارة الأردنية العامة التي كانت قائدة ورائدة ومتفوقة قبل نصف قرن تتراجع إلى حد مقلق جدا لا بل مرعب

الفرص العادلة لا تصنعها حتى البرامج العبقرية من هذا الصنف والشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص حجر الأساس في صناعة وظيفة تليق بالأردني وتسد حاجته بدلا من الاسترسال في تنمر رموز القطاع الخاص على السلطة وتعامل السلطة بالمقابل بارتياب مع القطاع الخاص.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص للأسف لا تزال على الورق فقط وحتى اللجان التي وضعت صيغة التمكين الاقتصادي تجد من يبلغك في عمان اليوم بأن ما كتب في تلك الأوراق ليس ما قيل وأوصي به في الاجتماعات حقا.
رفع شأن المهنية ولو على حساب مقولات الولاء والانتماء أحيانا مطلب ملح وأساسي لأن الإدارة الأردنية العامة التي كانت قائدة ورائدة ومتفوقة قبل نصف قرن تتراجع إلى حد مقلق جدا لا بل مرعب.
أبلغني أحد الوزراء بأنه أصيب بصدمة مهنية عندما استقبل وفدا لدولة عربية مجاورة خليجية يفيض بالحيوية والطاقة، ويفهم أكثر مما يحفظ فيما لا يوجد في تلك الوزارة ولا موظف واحد فقط يستطيع إعداد بحث علمي.
تقرر في إحدى الوزارات تأسيس فرع خاص لمتابعة مستجدات الذكاء الاصطناعي وتم تعيين موظف على رأس ذلك الفرع لا علاقة له بالذكاء الاصطناعي بأي حال من الأحوال ولا يعلم عنه شيئا فكانت النتيجة بأنه استعان بـ 11 موظفا تحت إمرته لا يعلمون بدورهم شيئا عن الذكاء الاصطناعي. حصل ذلك في وزارة قيل لنا إنها متطورة جدا وتؤسس للمستقبل.
وفي إحدى الجامعات الكبيرة يتحول سائق الى رئيس قسم إداري فيسأله موظف صغير عن هذه الترقية الكبيرة فيجيبه: «إنه الولاء لهذه المؤسسة يا عزيزي». هذا النمط من الولاء لتلك المؤسسة كلفها بكل بساطة خسارة سائق محترف ثم تعيين مدير غير محترف.
شابة حيوية ولديها خبرة صعدت عبر سلم الإعلاء من شأن المرأة في المناصب القيادية سرعان ما تحولت إلى ماكينة لتعيين المئات والعشرات من أبناء قبيلتها فخسرت البلاد قيادية واعدة ومبدأ العدالة في التوظيف، ولا تزال السيدة تخطب فينا نحن معشر الجمهور بكل ود. تلك طبعا مجرد أمثلة لا يجوز تعميمها. لكن مجددا هي أمثلة تبلغنا أن مفهوم الخدمة العامة وقدر المهنية غائبان في مشهد الإدارة. ومن هنا على الأرجح ينبغي أن تبدأ محاميتنا المذهلة برفقة رئيس الوزراء. الإدارة في زمن التنافسية لا تصلح فقط بالمجاملات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى