اراء و مقالات

الأردن و«الثرثرة على ضفاف الحقيقة»

أسوأ ما يمكن أن يحصل في خارطة النخبة الأردنية هو ترك المجال أمام صغار المتحرشين للإساءة إلى كبار السياسيين وأصحاب التجربة وبيوت الخبرة

ما الذي يمكن أن يدور في ذهن سياسي كبير متقاعد أو رئيس وزراء سابق لا يبحث عن فرصة العودة أصلا، عندما ينتقد ويقرع الجرس وبقدر من القسوة والخشونة؟
الخشونة هنا تناسب الظرف الموضوعي، خصوصا في مشهد ملتبس، مثل المشهد السياسي الأردني يتحدث فيه حتى أعضاء مجلس الأعيان بصورة مثيرة عن وجود عدة وجهات نظر في أروقة القرار والدولة واضح تماما أنها تتصارع أو تختلف أحيانا.
بعيدا عن تلك الخشونة السؤال سالف الذكر يتجول بين الجميع في عمان، خصوصا بعدما قرع جرس الانذار ونكأ «الدمل» السياسي رؤساء وزارات سابقون، لا يمكن اتهامهم لا بالاستعراض ولا بطموح الوظيفة، ومن الصعب ملاحظتهم ورصدهم في الأماكن التي يحبها المتحرشون بمراكز القرار.
طوال أسبوع يسألني كل من أقابله عن رأيي الشخصي في جزئية تحدث رئيس وزراء سابق علنا في اطار النقد للحالة الوطنية.
الجواب على السؤال هنا ملتبس أيضا وهو ثمرة للزاوية التي نقرر الجلوس فيها ونحن نحاول الإجابة.
أسمع بحكم عملي رؤساء حكومات الماضي خلف الستارة ووراء الميكرفون، وأتابع طبعا ما يقولونه وينقل عنهم، وأرصد دوما تلك الهوامش ما بين ما يقال من حيث البناء والشكل والعبارة لصانع القرار، وبين ما يمكنه أن يقال في المنابر العامة تحت ضغط الميكروفون.
مثل غيري من الأردنيين توقعته أن يتحدث بالشأن العام.. رجل دولة ذو هيبة مثل الرئيس عبد الكريم الكباريتي.
وبصراحة فتحت هاتفي عندما أنهى الرجل تعليقه على المناسبة التي تجاوزها لاحقا، وبمجرد توقفه قليلا بعد «أما بعد» فقد كنت حاضرا في المكان، وقدرت بأن شخصية مثل الكباريتي ستهز الغربال، وفتحت هاتفي للتسجيل وسط مئات الحضور.
أعلم مسبقا بأن شخصية مثل الرئيس عبد الرؤوف الروابدة مدفوعة بحدث جلل بالتأكيد، عندما تقرر الانتقاد لحالة ما علنا أو الملاحظة عليها، فالرجل قال لي مباشرة يوما بأن الثقافة المحلية في الإدارة اعتادت على عدم تسليط الضوء على العيوب ومظاهر الخلل.

أسوأ ما يمكن أن يحصل في خارطة النخبة الأردنية هو ترك المجال أمام صغار المتحرشين للإساءة إلى كبار السياسيين وأصحاب التجربة وبيوت الخبرة

ذلك قول فاجأني فعلا، وفي وقت مبكر قبل عقدين من الزمن، وعندما يضطر الروابدة نفسه لمخالفة هذه القاعدة، ومع ثقتي بحسن نواياه وطواياه، أفهم أن القلق موجود وبقوة وأن الواقع مرعب ومخيف.
استعمل الكباريتي مفردة «الفزع» وقبله الفاضل فيصل الفايز مفردة «القلق الشديد» وقال الروابدة بأن الإصلاح لا ينجز بالطريقة الحالية، وتحدث قبلهما سمير الرفاعي وعلنا عن وجود إجراءات تخالف الرؤية الملكية، فيما سبق الجميع عدنان أبو عودة في التحذير منذ أكثر من عامين من غرق السفينة وسط أمواج الإقليم.
بالمقابل، طرح الرئيس طاهر المصري الذي يحظى بإجماع توافقي في مسألة النوايا والزهد السياسي بالتأكيد سؤالا له علاقة بكيفية الاستفادة من خبرات السياسيين، أما هزة غربال الكباريتي فقد كانت مندفعة جدا، لا بل جريئة للغاية وهي تتحدث عن مركب هائم وعن ثرثرة وطنية على ضفاف الحقيقة.
لا أحسب أن أشخاصا مثل هؤلاء السياسيين الكبار محركهم شخصي بل تشخيصي، ولا أفهم ما الذي يعنيه اتهام أي من السياسيين الكبار عندما يتحدثون، وأحسب ان جميع الأردنيين عليهم التوقف والتأمل عندما تتحدث طبقة رجال الدولة، بدلا من الاتهام، فمن يتحدثون هنا صحيح يتحملون جزءا من مسؤولية الحاضر، لكن الصحيح أيضا أن نقدهم واتهامهم فقط لأنهم تحدثوا بصراحة أو قاموا بالتشخيص الموضوعي، من وجهة نظرهم هو البؤس بعينه لا بل قرينة قوية على صلابة حجتهم.
لو كنت في مستوى صناعة القرار وقيادة الحكومة لسمعت باهتمام بالغ ما يقوله الرؤساء السابقون ولاهتممت بالإعلاء من شأنهم، بدلا من تحريك بعض الأدوات البائسة خصوصا على المستوى الإعلامي للهجوم على هؤلاء أو لاتهامهم، فما قالوه بكل حال طبعا لا ينبغي التسليم به، لكنه يستوجب النقاش والحوار والانتباه.
وأسوأ ما يمكن أن يحصل في خارطة النخبة الأردنية هو ترك المجال أمام صغار المتحرشين للإساءة إلى كبار السياسيين وأصحاب التجربة وبيوت الخبرة.
والحقيقة، لا يوجد ما يدعو للقلق لأن رئيسا سابقا للوزراء شعر بالخوف والقلق، لكن ما يثير القلق الحقيقي هو أن سياسيا كبيرا صاحب تجربة لا يجد مكانا منتجا لإيصال فكرته وللنقاش بملاحظته، وهو أمر في صلب أزمة الأدوات.
وما يثير القلق أكثر هو أن السلطات يمكن أن تسمح لمراهقين وأصحاب تجربة فكرتها الرئيسية هي النفاق والتسحيج بنهش طبقة من رجال الدولة ينبغي الانتباه لها عندما تتحدث.
تلك حجة على الدولة وليست لها وقد لا تنفع في تغيير الانطباع بأن اتجاهات الدولة لا تجد من يدافع عنها وسط الناس.
إنكار المنتج والمنجز ملاحظة ليست في صالح المتحدثين بأثر رجعي.
لكن بالمقابل إنكار من يحترمه الناس عندما يتحدث لن يكون الوسيلة الطبيعية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى