اراء و مقالات

الأردن: فضيلة «الشك» وعبثية «التشكيك»

حتى تكون الأمور أوضح خصوصا لأوساط الإدارة التنفيذية لا بد من أن يؤخذ الحديث المرجعي والملكي الأردني عن الفارق بين المشككين وبناة الدولة الحقيقيين بدلالته الأعمق.
مجددا نحذر من «تحريف الكلم» وأخذه إجرائيا «خارج سياقه» من باب الاستثمار «قصير المدى» للمس بأصحاب الرأي الآخر أو المشورة أو النصح، خصوصا من جهة مستويات تكنوقراطية وبيروقراطية تتفنن في تقليص الحريات العامة وتلتقط إشارة هنا أو هناك لتبرير ضعفها وبؤسها.
بكل حال التشكيك مرفوض وبالتأكيد هو ليس أكثر من قميص عبثي لا يستر عورة ولا يخدم قيمة. لكن التوسع في تشكيك الحكومة بكل الناس واعتبار النقد المباح والوطني والنبيل والرأي الناصح السديد ضربا من التشكيك أيضا مرفوض، وينبغي أن يرفض لأنه يشكل منزلقا خطرا يواصل تضليل القيادة والناس. القوم المنشغلون في الهم الأردني العام يمثلون ثلاث شرائح:
الأولى: قد تصدق معها توصيفات «السوداوية العبثية» حيث فئة تدعي بأن كل شيء غلط وسلبي وتنكر أي إنجاز وتحترف نزع اليقين أو بقاياه من الناس وتنذر بالشؤم دوما.
تلك شريحة موجودة ومن الصعب إنكارها.
الثانية: شريحة تنكر من باب الولاء المسموم والتضليل وجود أي مشكلة من أي صنف وتحترف بدورها اتهام وتخوين من يقول بوجود مشكلة حرصا على المصلحة العامة.
تلك شريحة موجودة بكثافة ولديها قدرات احترافية في ممارسة الانتهازية وتضليل مؤسسات القرار وقول ربع معلومة أو نصف حقيقية عما يجري، وخصم اتجاهات ومشاعر الناس من الأوراق والتقارير الرسمية.
الفئة الثانية خطرها لا يقل عن خطر من ينكرون كل شيء.

التشكيك مرفوض وبالتأكيد هو ليس أكثر من قميص عبثي لا يستر عورة ولا يخدم قيمة. لكن التوسع في تشكيك الحكومة بكل الناس واعتبار النقد المباح والوطني والنبيل والرأي الناصح السديد ضربا من التشكيك أيضا مرفوض

الثالثة: شريحة تتباين عن غيرها وتقول بأن الحاجة ملحة للدولة وللتفاؤل وللجدية لكنها ملحة أيضا للعمل وفق قواعد اشتباك سليمة هذه المرة.
وتحترف هذه الشريحة من جهتها ومن باب الإحساس بالمسؤولية الوطنية لفت نظر صناعة القرار للأخطاء والنواقص والتنبيه من كلفة وفاتورة تجاهل تلك النواقص أو الإصرار على العمل والإنجاز والبرامج في ظل التواطؤ مع وجودها.
في هذه الشريحة أردنيون طيبون محترمون نبلاء، فرسان حقيقيون تجاوزوا إغراء الوظيفة والامتيازات وأصحاب رأي وقادرون على التشخيص ووضع وصفات العلاج، وبين هؤلاء زعامات وطنية ورجال حل وعقد وتشاور وحكماء وخبراء لهم رأي في الأحداث حرصا على النظام والدولة والناس معا، لأن واحدة من الإشكالات المعقدة يختصرها خبير أمني استراتيجي متقاعد أمام كاتب هذه السطور وهو يقول «اختصار الدولة بالنظام جريمة استراتيجية لا تغتفر».
عبارة تبدو عميقة، لكن فهمها عقيم عند كل من لا يريد التعاطي معها باعتبارها تمثيلا للقمة في الوطنية والولاء المنتج الحقيقي، فالناس واحتياجاتهم وآراؤهم جزء من الدولة.
والنظام خارج سؤال الشرعية والحوار يعني وجود رأي آخر منزه عن الانتهازية والاسترزاق ولا بد من احترامه. طبعا ودوما لا يمكن احترام المشككين العبثيين.
بناة الدولة الحقيقيون من يشاركون في صياغة المستقبل ولا يحترفون قذف الشجرة الوطنية بحجارة الفوضى أو الإساءة لوحدة المجتمع والدولة. لكن بالمقابل الفارق ينبغي أن يتضح ما بين صاحب الرأي الناصح والقلق على الدولة والنظام قبل وأكثر من غيره أو الملاحظ الكفؤ والخبير والوطني وما بين من يحترف التشكيك، إما لأن السوداوية تستوطن قلبه أو انطلاقا من أجندة معادية وغامضة أو حتى بحثا عن امتيازات وابتزازات.
ثمة جزء من الشك وليس التشكيك ضروري جدا وبصورة ملحة لسلامة المسيرة وعليه ثمة فارق ما بين منتجي الشك بهدف إصلاح المسيرة وإيجابياتها وتصويب وتجويد العمل والخطوات وما بين من يشكك لأنه يستثمر شخصانيا في التشكيك.
نزعم هنا أن هذه المساحة الفاصلة خصوصا بعد خطاب العرش المرجعي الأخير ينبغي أن تكون واضحة عند جميع أدوات السلطة التنفيذية والحلقات الإدارية الوسيطة لأن الشعب الأردني لدغ سابقا من جحر الذين يبالغون في اتهام المعارضة الوطنية ومن جحر المزاودين.
وسبق للمواطن أن تعايش مع حالات حكومية ومؤسساتية ونخبوية ظلمت فيها الحقيقة وترنح فيها الحق لأن المستوى التنفيذي والإجرائي أراد قراءة وتفسير النصوص المرجعية وفقا للهوى والهدف الصغير.
مضامين خطاب العرش الملكي الأخيرة نبراس يهدي الجميع في طريق بناء الدولة الحديثة. والحرص أصبح واجبا على أن لا يتفنن من يحترفون تضليل السلطة والقرار من الشرائح التنفيذية بعد الآن في ابتداع وصفات وابتكارات تزيد من عدد المشككين بدلا من أن تنقصه وتوفر ذخيرة مجانية بالمقابل والنتيجة لكل بوصلة لا تريد رؤية الحق الوطني.
النصيحة حق واجب لكنها لا تنطوي تحت ستار التشكيك. وأزعم أن النصيحة والمشورة مطلوبتان لا بل هما هدف أساسي في المرحلة اللاحقة بعنوان تحديث بناء الدولة والتمكين الاقتصادي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى