اراء و مقالات

الأردن و«الشرط الجزائي»…هل نحتاج لطبيب نفسي؟

من تتطلب اعتبارات وظيفته مراجعة وثائق وأوراق أي مشروع من أي نوع تقع عليه مسؤولية مضاعفة واستسهال التوقيع على شروط جزائية مالية كبيرة مشهد يتكرر أيضا وينتج عنه أزمات

يحتاج المرء لطبيب نفسي وليس لضابطة عدلية أو محقق أمني او حتى خبير تكنوقراطي حتى يعرف ماهية تلك اللحظات التي يندفع فيها مسؤول أو وزير ما لتوقيع أوراق رسمية فيها شرط جزائي مبالغ جدا فيه ضد بلاده عندما يتعلق الأمر بمشاريع بنية تحتية.
يحتاج الإنسان فعلا لمعرفة تلك النوازع النفسية والخفايا المكتومة التي يمكن أن تدفعني وأنا في موقع المسؤولية، وتحت أي ظرف للغرق في وحل الموافقة على شرط جزائي مرهق ضد خزينة بلادي مع أن كل البهلوانيات التكنوقراطية والمهنية تتيح لي عندما أكون مسؤولا عن التوقيع في وظيفة رسمية الهرب والإفلات من كمين يمكن أن يراجعه بعدي أجيال من الأردنيين.
ليس من قبيل التفلسف، ولا حتى من قبيل الادعاء بمعرفة التفاصيل، لكن من قبيل فرضية بسيطة تحاول التجول بين الخيارات التي يمكن أن تكون متاحة عندما يحشر مسؤول ما في لحظة ما بزاوية تمزقه بين اتجاهين التوقيع على اتفاقية أو مشروع سيادي أو استراتيجي يشكل ضرورة للبلد، ومن زاوية أخرى كيفية مراوغة شبح وبعبع ما يسمى بالشرط الجزائي في حال تغير وتبدل الظروف.
لست خبيرا لكن أعتقد أن من بين الخيارات الاستمرار في الضغط المضاد، أو الغرق في المزيد من التفاوض، أو الاستعانة ببروتوكولات التأمين على الاستثمار من القطاع الخاص، أو إشراك زملائي من الموظفين الكبار بالتوافق وإدارة المواجهة. وأخيرا في حال حشر المسؤول أو الوزير في مثل هذه الزاوية يكون خيار الانسحاب والاستقالة من المنصب متاحا وببساطة.
كلفة الاستقالة أقل بكثير من الخضوع بعد سنوات للمساءلة أو الاتهام بالتفريط بحقوق الدولة شعبيا أو رسميا وهي أيضا أقل من التعرض لوابل من الملاحظات المهنية المتأخرة وعلى الطريقة المحلية، وينطبق الأمر طبعا على أي رئيس للوزراء شاء الحظ العاثر لطاقمه أن يتعامل مع استحقاق من هذا النوع.

من تتطلب اعتبارات وظيفته مراجعة وثائق وأوراق أي مشروع من أي نوع تقع عليه مسؤولية مضاعفة واستسهال التوقيع على شروط جزائية مالية كبيرة مشهد يتكرر أيضا وينتج عنه أزمات

نسوق هذه المقدمات ونحن نحاول فهم ما الذي يجري في السيكولوجيا السياسية تحت بند «الشروط الجزائية» بعد اللجوء لما يسمى بهيئات التحكيم الدولي حيث مستثمر أجنبي ما، يخضع فجأة لدلال بيروقراطي مفرط هو ومشروعاته وأطقمه ثم تنقلب عليه السلطة، فيدخل الجميع محليا بصدمة اكتشاف شرط جزائي ضخم لا يلائم إطلاقا إمكانات الدولة.
رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عمر الرزاز نفسه كان عبر علنا عن شعوره بشرط جزائي غير منصف عندما تعلق الأمر باتفاقية الغاز الإسرائيلي والشرط الجزائي هنا كان متعسفا وظالما. يتكرر السيناريو نفسه بطريقة غامضة في مشروع آخر في الطاقة له علاقة باستثمار صيني، حيث مبالغ ضخمة، قرر مسؤول ما المصادقة عليها كشرط جزائي عند توقيع الأوراق.
المؤمن الحقيقي لا يلدغ من جحر مرتين، لكن الحكومة الأردنية تستطيب فيما يبدو أن تلدغ من نفس الجحر وأكثر من مرتين لا بل عدة مرات، الأمر الذي بدأ يشكل فعلا ظاهرة غريبة عنوانها الافتقار إلى أدوات فنية سياسية خبيرة حقا بالتفاوض، وتستطيع إعفاء البلاد والعباد عندما يتعلق الأمر باستثمارات خارجية ضخمة من تلك الغرامات المتعسفة التي تدفع ثمنها الدولة والخزينة ثم المواطن.
قصة التورط بشروط جزائية متعسفة تحتاج إلى وقفة أعمق قليلا على المستوى البيروقراطي الأردني، فهي تتكرر ونتاج حالة فوضى نخبوية تعلي من شأن الامتثال والتسرع على حساب المهنية والتعمق، تلك طبعا مفارقة قديمة في الإدارة العليا يعرفها الجميع.
لكن تكرر مأساة الشرط الجزائي ناتج بالتأكيد عن كل تداعيات أزمة الأدوات فبين الحين والآخر نبالغ في التصفيق لإنجاز مشاريع ضخمة وبسرعة نبيت مع جدل متعاظم عنوانه التحقيق والفساد مما يؤدي إلى التشكيك بمجمل الأداء وغالبية النخب.
من تتطلب اعتبارات وظيفته مراجعة وثائق وأوراق أي مشروع من أي نوع تقع عليه مسؤولية مضاعفة، واستسهال التوقيع على شروط جزائية مالية كبيرة مشهد يتكرر أيضا وينتج عنه أزمات، والحديث هنا عن دولة ووطن وليس عن نزاع بين شركات أو أفراد في القطاع الخاص. من حق الأردني على حكومته أن يعلم بالتفصيل ما الذي يحصل. ومن حقنا أن نفهم تلك الخبايا والخفايا السيكولوجية التي تدفع مسؤولا ما في أي لحظة لقبول فكرة شرط جزائي ضخم على دولته مقابل ذرائع سطحية، وعند لحظة استقطاب مستثمرين أجانب فما يحصل أحد سيناريوهين، إما حصول خلل في التفاوض أصلا وإسناد المهام إلى مفاوضين بائسين أو لا يتمتعون بالخبرة الكافية أو إخفاق كبير في عرض الإمكانات الاستثمارية على الآخرين.
شخصيا وبصراحة لا أعرف ما الذي ينبغي أن يحصل حتى تخف وطأة الشروط الجزائية المتعسفة على مصالح الأردنيين. لكني أعرف بأن هذا المسلسل وبعدما لدغت منه بلادنا ينبغي أن يتوقف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى