اراء و مقالات

الأردن والمشي انتخابياً على «الأصابع»: عمان والزرقاء والبقاء في «الترانزيت»… ماذا بعد؟

عمان- «القدس العربي» : قد ينطوي ما قاله علناً الرجل الثاني في حكومة الأردن الوزير توفيق كريشان، على وجاهة سياسية وأخلاقية إلى حد ما. لكنه قد ينطوي في الوقت نفسه على تلميح يتم تجديد الثقة به هذه المرة وعبر انتخابات البلديات ومجالس اللامركزية، ويقضي بأن الدولة الأردنية وبكل مؤسساتها عليها أن تقف مجدداً أمام السؤال القديم المتعلق بكيفية تفكير وانحيازات أهالي مدن الكثافة السكانية، وتحديداً عمان والزرقاء، حيث لا يشارك المقترعون فيهما لا بانتخابات البرلمان ولا بالانتخابات البلدية، وبنسبة عزوف ملموسة.
الأردن بكل أطرافه ينبغي أن يقف على أصابعه وهو يحاول قراءة هذه المفارقة الكبيرة التي تكررت مجدداً، فنسب الاقتراع في مدينتي الزرقاء وعمان للانتخابات البلدية بالرغم من تباينها واختلافها واختلاف تقاطعات المصالح وحجم الإنفاق المالي للمرشحين فيها، هي متقاربة إلى حد كبير من نسب الاقتراع لأهالي المدينتين في انتخابات البرلمان. الوزير كريشان كان قد تحدث في جلسة خاصة عن ملف الحكم المحلي والانتخابات، حضرتها «القدس العربي»، وأمامه زوايا خيارات ضيقة.

خياران

خياران لا ثالث لهما؛ أولاً قول ما قاله علناً بخصوص تقريع أهالي عمان وعدم وجود حقوق في الانتقاد والاعتراض والاحتجاج لمن لا يذهب إلى صندوق الاقتراع، ويعتبر يوم العطلة المخصص للانتخابات مجرد يوم عادي يمكن قضاء وقته في نزهة.
أما الخيار الثاني أمام كريشان وغيره من كبار الوزراء والمسؤولين، فهو الغرق مجدداً وباسترسال بتحديد ما هي احتياجات الدولة في المرحلة اللاحقة بين مفارقتين: الأولى لها علاقة بالإجابة عن سؤال تحديث المنظومة وتقميش وتنميط الحياة السياسية ومقدار المسافة المتقاطعة وليس المتباينة ما بين الرؤية الملكية الأرفع في هذا الاتجاه ومشروعها، وما بين الواقع الموضوعي.
والثانية هي تحديد ما إذا كانت أجهزة القرار بمركزها وتفرعاتها ستقبل بهذا الأمر الواقع الحالي، حيث المدن التي يوجد فيها غالبية ساحقة من سكان الأردن لا تصوت إلا بنسب متدنية، لا بل مخجلة على حد تعبير السياسي البارز الدكتور ممدوح العبادي، وتؤسس لمأزق استراتيجي وطني أخلاقي وسياسي لا بد من التوقف عنده، وتأمل ليس فقط استحقاقاته لكن تداعياته على مستقبل الأردنيين.
قد يكون الأسهل على بعض نخب عمان الإعلامية الرد على التقريع بالتقريع، بمعنى انتقاد الوزير كريشان لأنه حرم غالبية مواطني العاصمة، وإن كان لم يقصد ذلك بأمانة وبصراحة، من حقوق الانتقاد للعملية الانتخابية على الأرجح ما داموا لم يذهبوا للصناديق، في حين أن يقترحه العقلاء دوماً هو أن هامش المناورة أمام من يقرر العزوف ولا يذهب للصندوق بصرف النظر عن السبب في انتقاد العملية الانتخابية وتوجيه اللوم لها عن بعد دون اختراق ومحاولة تغييرها، ينبغي أن يبقى ضئيلاً.
بمعنى، ثمة قدر من التعاطف والتفهم لما قاله الوزير كريشان، لكن عتاب بعض نخب وأهالي عمان على الوزير البيروقراطي المخضرم هو أقرب إلى محاولة تلفت نظره مجدداً إلى الأهم في البناء الوطني، وهو ليس حرمان أو تمكين ناخبي عمان الذين لم يصوتوا، من قول رأيهم في الانتخابات أو بدونها، بل الحفر في الأعماق والتوثق من الأسباب التي تمنع أهالي الكثافة السكانية حقاً وفعلاً من الذهاب إلى الصناديق. هنا تحديداً قد يحشد المنظرون للسلبية في عملية الاقتراع عشرات الأدلة والحجج عن الأسباب التي تؤسس لهذا العزوف السكاني والديموغرافي الكبير، الذي بصراحة يطال المدن التي فيها أغلبية تمثل المكون الفلسطيني.

ثمن باهض

وهذا لم يعد سراً في العاصمة عمان، بالمقابل تلك الأسباب بالتأكيد لها علاقة بالتدخل في الانتخابات والإصرار على مشاريع هندستها وضعف مصداقية العملية الانتخابية والتشكيك مسبقاً في نزاهة النتائج، إضافة إلى كل الاستدلالات الأمنية التي تخيف المواطن الأردني من احتمالية أن يسمح له حقاً وفعلاً للتعبير عن رأيه. تلك أسباب وجيهة أيضاً، وينبغي أن تدرسها الدولة على أعلى المستويات، لكنها أفقية ولا تبرر السلبية، كما يصر الدكتور العبادي وغيره، فمن يدفع كلفة العبث في الانتخابات والتدخل فيها أو حتى التدخل الأمني أو حتى ظاهرة العزوف عن المشاركة في الاقتراع هم الجميع وبصورة أفقية، بما في ذلك الدولة نفسها.
دفعت الدولة ثمناً باهض، هو مشروع تحديث المنظومة السياسية وتمكين الأحزاب السياسية بعد التدخل عبر هندسة انتخابات البرلمان الأخيرة، ومن المقرر أن يدفع كثيرون داخل الدوائر الرسمية أثماناً أخرى مقابل استمرار الهندسة وتفرعاتها، لا بل وتجلياتها، بدلالة أن البديل عن تحديث المنظومة السياسية هو العودة إلى مرحلة ما قبل تحديث منظومة الدولة في الواقع على مستوى الصراع الانتخابي، فالمناطقية والعشائرية وتمثيل العائلات هو الأساس في انتخابات بلدية لا تشارك فيها لا المكونات الاجتماعية العريضة ولا الديموغرافيا ذات الأغلبية ولا المدن الأساسية المسيسة، وبالضرورة لا تشارك فيها أيضاً الأحزاب السياسية.
يحتاج الأمر إذاً إلى ما هو أبعد من ذلك، وهذا يعني العودة إلى الحفر في المسألة أكثر، والتوثق من تلك المبررات والمسوغات التي قد يكون بعضها عادلاً، والتأكد على مستوى القرار المركزي في الدولة بأن نزاهة الانتخابات ليست مسألة ترفيه، لا بل مسألة مؤثرة في عمق مصالح الدولة وتوازناتها، خصوصاً في الداخل أو في الخارج؛ لأنه لا مصلحة لأحد إطلاقاً في استمرار شعور الغالبية الساحقة من سكان أكبر مدينتين، قياساً بالكثافة السكانية في المملكة الأردنية الهاشمية، بأنهم في جزئية الانتخابات لا يزالون في ذهنية الترانزيت والمطار، وهو أمر لا بد من معالجته والتوقف عنه، ومن المعيب سياسياً لا بل من المخجل بيروقراطياً القول بأن هذا الواقع أصبح يشكل حقيقة لا بد من التعامل معها دوماً وأبداً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى