اراء و مقالات

العسكري إلى «الثكنات» والأمني إلى «الاختصاص»… الأردن عشية «الهيكلة والإصلاح»: هل يشعر «البيروقراط الدستوري» بـ«اليتم»؟

مسألتان لا يمكن إسقاطهما من الحسابات السياسية المتشابكة عندما يتعلق الأمر بالفارق بين الشعار والتطبيق والالتزام بملف الإصلاح الهيكلي للمنظومة الأردنية.
عملياً، لا يمكن إنجاز أي خطوة في السياق دون إنضاج قدرات على التشابك والتفكيك التدريجي بين مختلف الأجهزة والمؤسسات، بما في ذلك العميقة والدستورية. وهنا تكمن المسألة الأولى.
في المسألة الثانية، من الصعب تجاهل المفارقة عندما تحصل؛ لأن المؤسسات الدستورية التي ينبغي أن تعمل على تمكينها المنظومة الأمنية يفترض أن تكون جاهزة بدورها بعد عقود من الممارسات والاشتباكات التعاونية، يمكن القول الآن بأنها تمس بموجب التوجيه الملكي بأمر الاختصاص.
المطلوب من المنظومة الأمنية الآن علناً «العودة إلى الاختصاص».
لكن السؤال يطرحه خبراء وخبيثون مادام التدرج في الاشتباك والتفكيك غائب عن المشهد، يتمثل بصيغة متذاكية تقول: إذا اتجه الأمن فعلاً نحو الاختصاص، فهل تتوقف المؤسسات الدستورية المختصة بدورها عن استدعاء الأمني واللجوء إليه؟
سؤال لا يخلو من الدهاء السياسي بكل حال، وقد يكون الهدف من طرحه أصلاً إعاقة الاتجاه برمته، لكن ثمة تشويش فقط في الجملة الشكلية والتكتيكية وليس الاستراتيجية. وهو تشويش على المستوى النخبوي يدركه الجميع الآن بعدما ثار نقاش غريب بين وزراء في الحكومة ومسؤولين أمنيين، الأسبوع الماضي، على خلفية استفسار الحكومة أو استدعائها للخبرة الأمنية العميقة، أملاً في السيطرة على إيقاع اجتماع قرره أعضاء البرلمان الجدد من شريحة المتقاعدين العسكريين.
هنا تحديداً وقفت عدة أطراف أمام الحائط، فخبرة المنظومة هي الأساس في السيطرة والمتابعة والتحكم، لا بل يعتقد بأن رموز المؤسسات الدستورية الأخرى التي وجدت نفسها فجأة مطالبة بتسيير وتسهيل أعمالها، بمعنى القيام بواجبها، قفزت إلى الواجهة مرحلياً بدعم وإسناد من مؤسسات الظل، سواء في القصر الملكي أو في المستوى الأمني.
ثمة دور كبير يعرفه الجميع في الأردن لقوى أو مراكز قوى الظل والعمق، وثمة سؤال أكبر اليوم بعد رسالة تسريع وتيرة إعادة الهيكلة بالتوقيع الملكي عن تلك المسافات التي تفصل حقاً وفعلاً بين دور «الظل» ودور «الضوء» وبين اعتبارات التزاحم النخبوي التي بقيت لسنوات طويلة في الواقع مادة تغذية تنتج خيارات استراتيجية بديلة في الأزمات والمشكلات أمام القيادة والمؤسسة وأمام الناس أيضاً.
إذا ما عادت المنظومة الأمنية دفعة واحدة إلى الاختصاص؛ بمعنى رفعت يدها عن التفاصيل مادامت أدوات التمكين قد توفرت الآن عند بقية المؤسسات، فهل يعني ذلك أن شركاء القرار والتنفيذ في المشهد الوطني جاهزون لقيادة مرحلة لم يكن لهم دور مفصلي في صياغتها أصلاً؟
سؤال خبيث آخر برسم تداعيات إعادة هيكلة المنظومة الأمنية، وهي المسألة التي تشغل جميع الدوائر الأردنية للأسبوع الثالث على التوالي دون أن تتوفر أدلة أو قائن على أن ذلك بحد ذاته لم يكن مقصوداً.
هو مقصود على الأرجح، وله علاقة باشتراطات ومطالبات مرحلة الإصلاح السياسي والتعافي. لكن التجربة الميدانية تقول أن الأمن الأردني لا يزاحم على الضوء، ويزهد بالميكروفون، وبقي منتجاً طوال سنوات في الظل، ولديه روح انضباط مهنية وعسكرية تمتثل وبحرفية وسرعة عندما يصدر أمر العودة إلى الاختصاص.
في المقابل، التجربة نفسها تؤشر إلى أن أزمة الأدوات في الإدارة العليا مسترسلة، والانتخابات الأخيرة يشوبها عيب، والمستوى السياسي لم يعتد يوماً على العمل منفرداً، وتلك المؤسسات الدستورية لديها احتياجات متراكمة ولا تزال طوال الوقت شغوفة بالخبرة العميقة التي توفر عليها الجهد والطاقة والوقت بدلاً من الشعور بـ»اليتم السياسي».
كما تقول أن المطلوب منها اليوم ممارسة واجبات دستورية بعد عودة العسكر إلى ثكناتهم، والأمنيين إلى اختصاصهم، بطريقة على مستوى التحدي والمشكلات والأولويات، وبعد فترة طويلة من غياب مفهوم الولاية العامة أصلاً، وإثر سلسلة من الممارسات المستقرة بسبب الصراع القديم والموسمي بين الأمني والسياسي تحت عنوان تفريغ الحياة السياسية والنقابية من أي مضمون.
الأمني طبعاً ساهم في هذا التفريغ، ولا أحد يلومه؛ لأن الزحام في الأردن غير مسموح أصلاً. والأمني، عندما يطلب منه العودة إلى الاختصاص يمتثل وبنفس الكفاءة التي كان يملأ فيها الفراغ بسبب الظروف الإقليمية والدولية العامة وطبيعة التحديات. والمؤسسة العسكرية اشتبكت مع عاصفة الوباء العام الماضي، وحققت إنجازاً كبيراً قبل العودة للثكنات لإفساح المجال أمام البيروقراط الدستوري الذي يتضح اليوم أنه يحتاج أيضاً إلى «هيكلة» من طراز تحديثي خاص.
لكن، هل «الدستوري» جاهز في المقابل للقيام بواجباته؟ وهل العملية الدستورية والديمقراطية أفرزت شريحة من الرموز والقيادات القادرة على ممارسة الكفاءة نفسها في الالتزام للتوجيهات المرجعية؟
تلك من الأسئلة الحرجة، لكنها مطروحة في ذهن أصغر مصفق للإصلاح في الأردن، وكذلك في ذهن أكبر مؤيد لبقاء الأمور كما كانت ويألفها الجميع طوال الوقت.. مفارقة أردنية بامتياز مجدداً. ومن يحسمها.. الأمني الذي أمر بالاختصاص، أم الدستوري الذي أفرزه الأمني للتو؟
التعافي الوطني يتطلب التقاط ما هو جوهري في المسألة، والحاجة ملحة جداً لقانون انتخاب جديد ينهي فعلاً جدلية كلفة الإصلاح وثمنه، ويؤسس لطبقة رموز تمثل الدولة والناس معاً حتى تصبح العودة إلى الاختصاص أقرب إلى قميص وطني يرتديه جميع الأردنيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى