اراء و مقالات

مستشفى «فقراء الأردن»… حكاية اسمها «البشير»

مؤشرات الخلل البيروقراطي والإداري يمكن معالجتها بالقرار السياسي بعد الإقرار بها طبعا، لكن المحافظة على مستشفى الفقراء وخدماته تتطلب إظهار بعض التواضع ومنح الأولوية المالية لحقوق دافعي الضرائب من بسطاء الشعب في رعاية صحية أفضل

مثل بقية المواطنين الأردنيين زرت مستشفى البشير الحكومي الشهير عشرات المرات. معظم المواطنين الأردنيين، تواجد لسبب او لآخر في شوارع وأزقة وأقسام او طوارئ مستشفى البشير الضخم الذي تهبط وترتفع فيه الأفئدة والقلوب، وتشهد سيرته منذ نصف قرن كل تلك المراوحات الإنسانية الطبيعية من إطلاق البالونات فرحا وإبتهاجا إلى الدموع والحزن وتحضير الأكفان.
لا يمكنه أن يكون مجرد مستشفى فهو ترميز لما هو أبعد وأعمق بالنسبة للمجتمع الأردني.
وهو المستشفى الذي يولد فيه آلاف الأردنيين، ويموت فيه العشرات منهم، باعتباره مستشفى الفقراء الأول والأضخم بامتياز، فقد راقبت مثل غيري أقرباء وأعزاء توفاهم الله في أقسام الطوارئ، وراقبت مثل غيري من الأهل والأحبة والأقارب والأصدقاء ابتهاجات وتوزيع حلويات، بعدما كتب الله النجاة في مقرات وعيادات ذلك المستشفى لعشرات الآلاف من الأردنيين.
صحيح أن تعثر الإدارة وتقلب المدراء في مستشفى البشير تحديدا هو صورة مصغرة عن أزمة البيروقراط الأردني. وصحيح أن مضمون وجوهر أزمة خدمات القطاع العام الأردني يمكن دراستها عند مراقبة ذلك المستشفى الذي يخدم فقراء المملكة ويأتونه مرضى وزوارا وجرحى من كل صوب وحدب. صحيح بالمقابل أن التركيز فقط على مشكلات هذا الصرح الطبي المهم ظالم وتعسف وغير منصف، فمقابل كل حالة وفاة أو تقصير أو زحام ثمة عشرات الآلاف من حالات الإنقاذ والاسعاف التي ترفع لها القبعة احتراما.
ومقابل ازدحام هنا أو شكوى، هناك ثمة جنود مجهولون بالجملة من أبناء طاقم هذا الصرح يعملون بصمت وبطاقة إنسانية، ما يثير التساؤلات كيف نترك المضيء في مسألة مستشفى البشير ونسلط الضوء على بقعة عتمة هنا أو هناك، دون أن يعني طبعا مثل هذا الخطاب عدم وجود أخطاء أو تقصير أو حاجة ملحة للتطوير، فوزارة الصحة شئنا أم أبينا طوال عامي الفايروس كورونا حققت خطوات متقدمة جدا من الظلم انكارها.
مستشفى البشير يجب أن يحظى بالأولوية دوما وأبدا، وانطلاقا من كل حلقات القيادة في أجهزة الدولة، وأثق بأن طبيبا جراحا أو مقيما في مستشفى الفقراء الضخم يقدم الرعاية لـ90 مريضا في اليوم الواحد، يستحق الاحترام والتقدير والشكر، وأن حارسا أمنيا في أحد المقرات ينبغي أن نمتن له، وهو يضطر للقيام بواجبه متحملا كل أصناف المراوغة والتعذيب والإلحاح والميل الفطري لمعاكسة القانون والإزعاج.
الامتنان تستحقه كوادر التمريض أيضا والتي تعمل جميعها مقابل القليل وفي ظروف استثنائية وشاقة جدا.

مؤشرات الخلل البيروقراطي والإداري يمكن معالجتها بالقرار السياسي بعد الإقرار بها طبعا، لكن المحافظة على مستشفى الفقراء وخدماته تتطلب إظهار بعض التواضع ومنح الأولوية المالية لحقوق دافعي الضرائب من بسطاء الشعب في رعاية صحية أفضل

لا يتعلق الأمر فقط بالمقولة المعلبة حول رؤية النصف المملوء من الكأس، بل بالانتقال إلى مستوى إشعال شمعة والتوقف عن لعن الظلام، فهذا المستشفى يستحق من الدولة وليس الحكومة فقط نظرة مختلفة وتركيزا شديدا ودعما ماليا لا نظير له، يمكن توفيره من كل النفقات الرسمية الزائدة عن الحاجة أو التي لا مبرر لها.
سيفهم أي خبير ما الذي يحصل في مستشفى مثل البشير في قلب العاصمة عمان إذا ما علم القوم بأن الميزانية المالية السنوية المخصصة لوزارة الصحة أصلا برمتها مخجلة ومؤسفة، وأنها لا تزيد.
نشعر بالخجل عندما نعلم بأن ميزانية وزارة الصحة للعام الماضي وفي بؤرة الاشتباك مع الفايروس كورونا نقصت بضعة ملايين من الدنانير بدلا من أن تزيد وأن تدعم، ولو من مخصصات رئاسة الوزراء أو المؤسسات السيادية جميعها.
ثمة عقول إدارية ناضجة وخبرات في منظومة الصحة العامة وبدلا من الاكتفاء بالتشكيك بالنوايا والحديث عن مؤامرات، لا بد من التركيز على الضغط على السلطة، لكي تخصص المال اللازم لأهم الوزارات الأردنية حتى يتمكن صاحب القرار بصرف النظر عن هوية الوزير من وقف نزيف الخبرات الطبية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وحتى نلمس جميعا مشهدا يتزاحم فيه الأطباء والممرضون والخبراء الصحيون على أبواب العمل في القطاع العام وليس الخاص.
مؤشرات الخلل البيروقراطي والإداري يمكن معالجتها بالقرار السياسي بعد الإقرار بها طبعا، لكن المحافظة على مستشفى الفقراء وخدماته تتطلب إظهار بعض التواضع ومنح الأولوية المالية لحقوق دافعي الضرائب من بسطاء الشعب في رعاية صحية أفضل.
دون ذلك سنعلق مجددا في الجدل الناتج عن السؤال التالي: كيف يتعطل مصعد للمرضى في مستشفى البشير بعدما زاره قصدا الملك مرتين على الأقل، وثلاثة رؤساء حكومات على التوالي؟
من مسؤول عن ماذا؟ كيف تدار المخصصات المالية والأولويات؟ ما هو بصورة محددة دور أثرياء الأردن عندما يتعلق الأمر بتقديم الحد الأدنى من الرعاية الصحية للفقراء؟
لا ينطوي الأمر على اختراع العجلة… ثلاثة أسئلة بسيطة جدا، يمكن البدء بالبحث عن إجاباتها في سردية «البشير».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى