اراء و مقالات

أدلة مبكرة في الأردن على «فوضى مجتمعية» سبقت «الجرائم الإلكترونية»

عمان – «القدس العربي»: هي بالتأكيد أقرب وصفة محتملة لتصدع وأزمة مجتمعية تنتج مبكراً ليس عن قانون الجرائم الإلكترونية الجديد، ولكن عن النقاش حوله وقبل عبوره ودسترته. فما حصل في عمان خلال الـ 84 ساعة الماضية يصلح كعينة علمية ومنهجية تظهر المشكلات العميقة في القانون الجديد.
وجد الكاتب الصحافي عمر كلاب، بعد ظهوره في برنامج تلفزيوني، مدافعاً عن القانون وتصور الحكومة له نفسه أمام مفارقة الهجوم المعاكس ومن زاوية عشائرية واجتماعية الطابع هذه المرة.
ما قاله الكاتب هو استعمال اسم القياديين في جبهة العمل الإسلامي، ينال فريحات ومراد العضايلة، في سياق محاولة التذكير بأن المعارضة في الأردن يسمح بها، لكن عائلات المعارضين تستهدف في أنظمة أخرى في الجوار.
قد لا تكون العبارة موفقة بحرفيتها هنا، لأن فريحات والعضايلة يمثلان التيار الإسلامي أكثر من أي تمثيل مناطقي أو عشائري، لكن الحملة ضد الكاتب الصحافي اتخذت فوراً طابعاً عشائرياً وجهوياً؛ لأن تلك العبارة فسرت من هذه الزاوية، مع أن كلاب نشر توضيحاً مفصلاً برفقة اعتذار رقيق لأي من أبناء العشيرتين وصلته رسالة سلبية.
الأهم في هذا الاختبار هو: لو كان قانون الجرائم الإلكترونية مطبقاً، لوجد مئات من أبناء العضايلة والفريحات فيه نصوصاً مطاطة تسمح بإقامة عشرات الدعاوى القضائية ضد صحافي قال رأياً مهنياً وعاند الاتجاه العام للاحتجاج على القانون الجديد. في المقابل، نصوص القانون الذي لم “يتدستر” بعد، في طبيعتها قد تحيل الصحافي كلاب بسبب عبارة فهمت بصورة خاطئة وخارج سياقها وبثت عبر الموقع الإلكتروني لتلفزيون محلي إلى ضحية ليس فقط للتحريض والكراهية والشطط في القراءة والتحليل، بل إلى عاصفة من الشكاوى القضائية التي تشغله ومن حوله ومعه، وتستنزف جهازي القضاء والأمن.
العكس صحيح أيضاً؛ فبروز الهوية الفرعية والمناطقية والعشائرية في رد فعل بعض منشورات أبناء العشيرتين يوفر للصحافي نفسه مادة دسمة لتسجيل عشرات القضايا والشكاوى القضائية. ومثل هذا التنابز والتراشق بتشكيل الدعاوى هو حصراً ما حذر منه المفكر الاجتماعي والوزير السابق الدكتور صبري إربيحات.
عملياً، دون نية مسبقة لا من الصحافي كلاب ولا من الفريحات والعضايلة ولا حتى من الذين شعروا بالإساءة من أبناء عشيرتيهما، قدم للرأي العام نموذجاً حيوياً على ما يمكن أن يفعله القانون المعدل الجديد بالأردنيين إذا ما صودق عليه وأصبح ساري المفعول.
ما حصل هنا في هذا النموذج وما سيحصل في غيره، برأي الحقوقي الخبير عاصم العمري، هو القرينة الأكبر على صناعة أزمة مجتمعية جديدة بلا مبرر، فيما أصبح القانون المثير للغط والجدل أفقياً في المجتمع عبئاً كبيراً على مؤسسة القرار الملكي قبل النظر بالمصادقة عليه أو عدمها، وفقاً للناشط الإسلامي المسيس الدكتور رامي العياصرة.
كلاهما، العياصرة والعمري، حذرا من مشهد بسبب القانون ينتهي بمثل هذه المساحة من الكراهية والتحريض والانقسام.
وكلاهما، ونقصد هنا الفريحات والعضايلة، سُجلا سابقاً أمام الأردنيين في الاحتجاج على التشريع الجديد باسم التنظيم والحركة الإسلامية، وليس باسم العشائر، فيما أبناء العشيرتين الذين أغضبتهم تلغيزة الصحافي كلاب أو أساؤوا فهمها، يوفر لهم القانون لو كان ساري المفعول ذخيرة حية لتكريس الشطط في القراءة والتعليق مقابل الشطط في تأييد تشريع قانوني أنتج كل هذا التجاذب.
وفي مواجهة أخرى على صفحات الصحف بين مخضرمين هما الكاتب الصحافي الكبير أحمد سلامة والوزير السابق عضو مجلس الأعيان حالياً واليساري بسام حدادين، قرائن إضافية على ما يمكن توفيره بالذخيرة لإشغال الدولة والناس بسلسلة من الشكاوى القضائية، ليس لأن حدادين لجأ للغمز مما سمّاه بالتيار المعاكس في الدولة، وليس فقط لأن سلامة بدوره حاول التذكير بضرورة ألا يزايد اليساريون على الدولة ورجالاتها، ولكن لأن نصوص الجرائم الإلكترونية بطبيعتها مرنة وفضفاضة، وتسمح للجانبين مع الدولة كطرف ثالث بإقامة سلسلة من الدعاوى والشكاوى القضائية.
لا يقيم قانون الجرائم الإلكترونية المعدل، الحجة على المتحاورين الأتقياء الأنقياء، بل يوفر مساحات من النكاية والمضايقة ومنزلقات القراءة والتفسير لأي نصوص منشورة بأي وقت وعلى أي شبكة، وبصرف النظر عن مضمون الكلام والمنشور.
تلك واحدة من إشكاليات النص القانوني الجديد الجوهرية؛ فهي تحيل الحوار والخلاف في الرأي إلى تجاذب بالكميات والأطنان لاحقاً عبر السلطة القضائية؛ لأن القصور كان بارزاً جداً في النصوص -وفق العمري- التي تحشر أو تحاصر من سمّتهم الحكومة بالمسيئين على “السوشال ميديا”.
مجرد عبارة قيلت بهدف المقاربة السياسية من كاتب محترف أثارت ردود فعل اجتماعية ومناطقية وعشائرية و”احتقانية” في الوقت نفسه. ومجرد رأي لكاتب خبير بعد بروز صوت يساري معارض للقانون في مجلس الأعيان، سمح بكل أنماط المزاودات ومن طرف اليسار قبل ما يسمى بالتيار المحافظ.
هذه المشاغلة بكل أصنافها المفترضة، لا يمكن وصفها إذا ما صدر قانون يسمح بانتقالها كالعدوى والفايروس والمحاكم إلا بأنها أقرب سياق لصناعة أزمة اجتماعية أو مجتمعية مجاناً ودون سبب أو مبرر؛ لأن نصوص القانون ببساطة تتيح استخدام ذخيرة على أساس النكاية والتنابز والرغبة في الإيذاء.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى