اراء و مقالات

الأردن مجدداً في «التناقض»: صمود «الاعتقالات» وتراجع الحريات في عهد «التحديث والتمكين»

عمان – «القدس العربي»: لا جدوى من البقاء في محطة الانتظار والحياد سياسياً على الأقل عندما يتعلق الأمر باصطياد الحكومة الأردنية مرة تلو الأخرى في نفس المفارقة التي لم يعد يفهمها أحد، حيث عودة قد لا تكون ميمونة بين الحين والآخر لجزئية اعتقال النشطاء والسياسيين وأصحاب الرأي والحزبيين في نفس الوقت الذي يشهد فيه الجميع تكثيفاً في التأكيد على استراتيجية وثابت “تحديث المنظومة السياسية والتمكين الاقتصادي”.
عن أي تحديث سياسي وما هو التمكين الاقتصادي المنشود إذا ما استمر مسار الحريات العامة في الضيق في البلاد؟ يطرح كثيرون هذا السؤال اليوم مع الأنباء الجديدة وعمرها نحو 48 ساعة، عن احتجاز واعتقال نشطاء في الأحزاب والحراك بين الحين والآخر، وطبعاً دوماً لأسباب أمنية لكن غير واضحة، فقد تحدث حزب جبهة العمل الإسلامي المعارض أمس الأول عن اعتقال احترازي طال اثنين من كوادره القيادية، بينهم أمين سر حزب الجبهة ثابت عساف، وهو أصلاً وجه إعلامي بالمقام الأول مغرق في الاعتدال. ويفهم الجميع بأن المسار الاحترازي عن الاعتقال أو الاستجواب من أدق شؤون المنظومة الأمنية.
لكن ذلك لا يعفي لا حكومة تعدلت للتو ولا مجلس نواب عاد للانعقاد، من المسؤوليات السياسية والقانونية عن تكرار ظاهرة الاعتقال، لا بل عن جدواها وإنتاجيتها، مع أن كل أطراف القرار الرسمي معنية بإنتاج وصناعة حالة من المصداقية الراسخة لأغراض تنفيذ الرؤية المرجعية في مساري التحديث والتمكين. ويستصعب الخبراء إنجاز أي مساحة ملموسة من التمكين الاقتصادي حصراً في ظل مناخ حريات سالبة. ورغم أن الانتقادات تكاثفت رسمياً مؤخراً للمشككين بالمسيرة ومنتجي الإحباط فإن الحكومة لا تقول ما ينبغي قوله للرأي العام ولا لغيره بخصوص خلفية وسند وظاهرة الاعتقالات.

تغذية الإحباط

تبقى الاعتقالات حجة تغذي الإحباط العام وتغذي ما وصفه الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الشيخ مراد العضايلة أمام “القدس العربي” عدة مرات، بشعور العبثية واللاجدوى من الإصلاح السياسي رغم كل الخطابات.
قيل في الماضي إن الاعتقالات التي تطل برأسها هنا أو هناك بين الحين والآخر لها فوائد متعددة أهمها توجيه رسائل لمساحات الشغب والمناكفة ولفت النظر إلى أن السلطة مستيقظة ولا تفلت منها صغيرة أو كبيرة، وقد يكون الأهم التأشير على أن هيبة المؤسسات والقانون خط أحمر في حال المخالفة.
قيل أيضاً في الماضي عند تفسير فلسفة الاعتقال الاحترازي بأنه يساهم في تخفيف حدة التوتر والصدام مع المجتمع، لأنه يعفي الوطن والمواطن والدولة أحياناً من صدام محتمل في الشارع تحت عنوان وقفات احتجاجية أو مسيرات أو مظاهرات.
قيل الكثير في الماضي، لكن لا يمكن قوله مجدداً تحت خطاب مسارات التحديث والتمكين؛ لأن معنى استمرار سياسيات التضييق في مناخات الحريات العامة المباشر والسريع والمختصر هو توسيع قاعدة المشككين بالتحديث والتمكين، وتوفير ذخيرة تصلح لاستخدامها في مكانين بنفس الوقت وبطريقة ليست عبقرية.
المكان الأول هو المزيد من إشاعة الاحباط في الداخل، والثاني في الخارج؛ أن سمعة البلاد ومصداقية سجلها في الحريات العامة تتطلب جهداً للحفاظ على مكانة ليس بالضرورة أن تكون مرموقة في سجل حقوق الإنسان، لكن بالضرورة تنسجم مع خطاب الإصلاح وسمعة الأردن المعروفة بالتسامح والمرونة والاعتدال.
مجدداً، ما يحصل -برأي المحامي الحقوقي والناشط الكبير عاصم العمري- هو تكميم لأفواه ولا مبالاة حقيقية تجاه سمعة الإصلاح ومكافأة للاستبداد والتسلط إما باعتقال خارج الإطار القانوني أو ببناء قضايا وشكاوى ضد أصحاب رأي سياسيين يربطهم الحرص على المجتمع والدولة.

ازدواجية المعايير

مؤخراً، اصطادت الصحافة الأمريكية مجدداً حالة الحريات الأردنية بعنوان يبدو مثيراً وهو يتحدث عن ازدواجية المعايير عبر تسليط الضوء على استمرار الاعتقالات والتوسع فيها، في الوقت الذي تعلن فيه خطط لتحديث الدولة واصلاحها، الأمر الذي لا تصادق عليه في رأي العضايلة- إجراءات لحكومة وخطواتها على الأرض وفي الميدان.
لا أحد بعد قدم تفسيراً حيوياً ومقنعاً لجدوى وإنتاجية استمرار الاعتقالات سياسية الطابع في زمن الدعوة لتحزيب المجتمع.
ولا أحد، في المقابل، قدم فهماً متطوراً أو مهنياً لتلك العلاقة ما بين تجاهل غالبية السلطات لملف الحريات العامة الذي يتقلص بالصفة العمومية، والخطاب العام والوطني الداعي لتحديث المنظومة السياسية أو حتى لتعزيز التمكين الاقتصادي، فما يحصل في الحالتين متناقض للفكرة والمشروع. والأردن جالس تماماً بلا خطة وقائية رسمية في تلك الازدواجية ومساحة التناقض، الأمر الذي يزيد حتماً ليس من عدد المشككين فقط، ولكن من حمى التشكيك نفسها خلافاً لأنه يضفي علامات استفهام يمكن الاستغناء عنها حول جدية مساري التحديث والتمكين.
تتحشد نخبة من رجال الدولة الأوفياء وراء مساري التحديث والتمكين، وأصوات بعض أعضاء مجلس الأعيان تكاد تخنق وتبح وهي تصطاد نميمة الصالونات وتطالب الناس بالانضمام للعمل الحزبي، كما فعل الوزير السابق الدكتور محمد المومني، وكما يفعل مخلصون لخطة التحديث في الخريطة السياسية.
لكن كل تلك الأصوات على إيجابية ما تقوله، يخرجها عن السكة مجرد اعتقال واحد لأغراض سياسية لا تبرره السلطات الحكومية. إلى متى حقاً الاسترخاء في منطقة التناقض؟ لماذا يتوقع أصحاب القرار أن يشتري الشعب رواية التحديث والتمكين بدون تشكيك فيما تتراجع الحريات العامة بدلاً من أن تنمو وتتضخم، ولو لغرض تكتيكي على المستوى الإجرائي التنفيذي، هو خدمة الرؤية والالتزام بها؟ هذه بالتأكيد مفارقة لها سبب، لكن بصرف النظر عنه، فنتائجها واضحة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى