اراء و مقالات

«طحين» أمريكا وخبز الأردن

زمن التسويات قد يطل برأسه وبقوة من جديد وبأن زمن الترتيبات والصفقات قادم لا محالة، ونفهم بأن ما فات فات وما هو آت لا بد آت

تنتابني كما تنتاب كل أردني لديه الشغف بطرح الأسئلة العالقة دوما، مشاعر متناقضة كلما صرح مسؤول في أجهزة القرار بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف الوحيد الممول، أو الذي يبعث لنا نحن الشعب الأردني «طحينا» لنأكل الخبز ونلقي ثلثه بالقمامة فيما يلتهم حلالنا «الخراف والماعز» الثلث الثاني.
يعني ذلك حسب تلك المقولات المعلبة بأننا مع خرافنا نرتع بخير وبركات العم الأمريكي وكأننا سنفقد كل شيء لو غردنا مرة أو اجتهدنا خارج النص. كلما سمعت عزفا جديدا على تلك النغمة والاسطوانة قلت في نفسي «يا ساتر يا ستار» لأن ترديد تلك المعلبات يوحي فورا بأن اتجاها جديدا في طريقه لفرض إيقاعاته وتسليما جديدا بنسخة محسنة ومعدلة من القدر الأمريكي في طريقه للنفاذ أو أن شخصية جديدة مع خطة مستجدة من طراز خطة كوشنر في طريقها لأن تفرض على الأردنيين، باختصار ثمة «مصيبة» بقرار سياسي في الطريق والأفق كلما لوح أحدنا لبعضنا بالطحين الأمريكي.
تبدأ تلك الحفلة بالعادة من ركوب الموجة الأمريكية لا بل الارتخاء بعد الارتماء في أحضان تلك الموجة ثم الطقس الموسمي الذي يقدمه لنا كعرض مستمر سياسيون كبار أو ممثلون للسلطة والصف الرسمي في الموقف بعنوان أسئلة تبدو استفهامية، لكنها في الأساس استنكارية وتخويفية، والهدف منها إرعابنا من طراز: ما هو المتوقع منا في ظل الواقع وموازين القوى؟
هل نتذكر بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تدفع لنا كشعب أردني مليار و700 مليون دولار سنويا؟
أحدهم بالغ في حفلة الوناسة تلك، وهو يحاول التذكير بأن مدينة بحرية مثل العقبة قوامها وقوف قطعة بحرية عسكرية واحدة على بواباتها المائية لخنقها، وهي قطعة قد تكون أصغر قطع الأسطول الأمريكي السادس أو الخامس إن شئتم حتى كدت أسأل: لماذا يحاصرنا الأسطول السادس أصلا ونحن أصدقاء جيدون له؟
عندما نسمع في عمان هذا الكلام، نعرف بأن زمن التسويات قد يطل برأسه وبقوة من جديد وبأن زمن الترتيبات والصفقات آت لا محالة، ونفهم بأن ما فات فات وما هو آت لا بد آت، كما نفهم بأن إسرائيل بالمقابل ستحشر أصبعها مجددا وقريبا في أنف كل طفل أردني وستفرض إيقاعاتها وبصماتها في كل الأرجاء والمساحات، وسنعود معها للقمة في التطبيع بالرغم من كل الجراح بعد جولة لها في البلطجة والعربدة على الشعبين الأردني والفلسطيني.
نسمع تلك النغمة ونعود للقصة من أولها حيث تذكيرنا بالجوع الذي سيحصل إذا ما غاب عنا الدقيق أو الطحين الأمريكي، وبأننا بلد بلا موارد ولا ماء ولا نفط ولا كهرباء، وبالتالي ينبغي أن نبقى إلى جانب الأقوياء مع طبعا استخدام كل المترادفات في الأناشيد التراثية التي توضح لنا فلسفة البقاء في حالة الفقر والجوع لا بل حالة التبعية السياسية مع قناعتي شخصيا بأن زمن استقلالية القرار السياسي للدول ولى وانتهى.

زمن التسويات قد يطل برأسه وبقوة من جديد وبأن زمن الترتيبات والصفقات قادم لا محالة، ونفهم بأن ما فات فات وما هو آت لا بد آت

صحيح أننا لا نملك أي أدوات او وسائل قوة تؤكد بأن الفرصة متاحة لمناجزة الأمريكيين أو حتى لمخالفتهم في الموقف والبوصلة والاتجاه.
لكن نلاحظ جميعا بأن بعض الهوامش المتاحة لدول صديقة تدور في الفلك الأمريكي يتبرع مسؤولون أردنيون بها ولا يستثمرون فيها.
من الأمثلة على ذلك: كل دول المحور الأمريكي وجدت طريقة للنفاذ إلى تطبيع العلاقات مع سوريا ومع إيران دبلوماسيا وتجاريا باستثناء الأردن.
وكل الدول الحدودية والملاصقة لبلدان تستهدفها الولايات المتحدة مثل سوريا والعراق ثمة نصوص في القوانين الدولية وبروتوكولات وثقل سياسي يمكن ممارسته يساعد في تحقيق اختراقات أو حتى خصومات تساعد الاقتصاد الأردني وتمكن حكومتنا الرشيدة من تنويع الخيارات ولو قليلا، بدون طبعا تحمل كلفة مخالفة الأمريكي أو مغادرة العباءة التي يلقي بها.
مثلا نستطيع تعزيز الصادرات الأردنية والتعاون التجاري مع دول مثل تركيا وسوريا والعراق.
شخصيا راقبت حجم ومستوى التطوع عند بعض المسؤولين الأردنيين في حفظ نصوص قانون قيصر الأمريكي الذي يحاصر السوريين أكثر من أصحابه، لا بل التوسع في تفسير نصوصه وفي وضع أدلة ترشد أصغر موظف أردني إلى كيفية الالتزام بكل حذافير ونصوص قوانين قيصر وكأننا في «حصة تسميع ومحفوظات» بمعنى أن الأردني يبالغ بيروقراطيا في التطوع أحيانا وذلك لا ينتهي بتحقيق أي مكاسب والسلطة مع الحكومات لا تفاوض الأمريكيين بالمقابل ولا تستثمر في تلك الهوامش.
صحيح أن القدر الأمريكي صعب ومعقد ومناجزته أو مواجهته قد تعني الكثير في انكشاف الظهر ودفع الثمن لكن الصحيح بالمقابل أننا مللنا تلك الاسطوانة ونشعر بالضجر كلما أنشدت على رؤوسنا تلك الأغنية الموسمية المستمرة.
والصحيح أيضا أن هناك هوامش بين الحين والآخر حتى في الصداقة والتحالف والتبعية لابد من استثمارها بالصورة المناسبة ويمكن أن نبدأ بتعيين موظفين ومسؤولين مع إسقاط شرط «المواصفة الأمريكية».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى