اراء و مقالات

الأردن ومعادلة «مقبرة الكفاءة ومدفن الاحتراف»

ربطة العنق ولوحة السيارة والسائق المرافق والجاهات والوجاهات الاجتماعية هي التي تمثل الإغراء الأكبر وتقود الموظف نفسه لاحقا وسط مجتمع المظاهر والنميمة الى ضمان مقعد ما في المستقبل

أسوأ سيناريو مرتبط بنقاش وجدل وتجاذب ملف الإصلاح الإداري في الأردن على الإطلاق، هو ذلك الذي يفترض بأن ثقافة البيروقراطي الأردني السياسي لا تحتمل التحدث عن حصول أخطاء لا في الماضي ولا في الحاضر.
هذه الفكرة تم نقلها عشرات المرات في تقارير خاصة عن الإداري المخضرم عبد الرؤوف الروابدة وبقصد واضح ومحدد فقط، وهو التأشير على أن تلك النظرية بعنوان مصاعب الاعتراف بحصول أخطاء، إن كانت منتجة وفاعلة في الماضي بسبب حسابات لا يريد أحد الغرق فيها الآن، إلا أنها قاعدة تحاول تزيين الإحباط وتجميل الإخفاق ولم تعد قابلة للنسخ والتكرار والتطبيق اليوم.
بصراحة وبوضوح لا يبدو أن هناك وصفة يمكن اتباعها لإصلاح أمر فيه خلل لا على المستوى الشخصي ولا المهني بدون تعريف الإشكال.
ولا توجد طريقة لاحتواء مشكلة ما من أي صنف لا تبدأ أصلا بإقرارها.
كيف يمكن فعلا وحقا حل مشكلة الإدارة الأردنية، وذلك أضعف الإيمان بالنسبة لواجبات الدولة ومؤسساتها، بدون تعريف المشكلة نفسها.
تستفز الأرقام المعلنة مؤخرا في توقيت صعب ومحتقن اجتماعيا واقتصاديا كل الذكريات الإدارية الأليمة، وكل تلك النظريات المعلبة على رفوف دوائر القرار، لأن الحديث عن تعيين 90 شخصا في مواقع قيادية متقدمة في جهاز الإدارة خلال عامين فقط يفترض أن يعني أن عملية تجديد للدماء والأساليب حصلت، وأن المواطن لمس تغييرا إيجابيا ولو على مستوى ومنسوب تحسين خدمات القطاع العام في تلك المؤسسات التي استعانت الحكومة بخبرات الإدارة الجديدة لإدارتها.
لست بصدد الخوض في خلفية تلك التعيينات. ولا باتخاذ قرارات شفافة بشأنها ولست معنيا حتى بالتعليق على ما يشغل الشارع الأردني بخصوص الوظائف العليا ولا بالزحام على أبواب تلك الوظائف ليس بدون مبرر فقط ولكن بدون خطة من أي صنف.

ربطة العنق ولوحة السيارة والسائق المرافق والجاهات والوجاهات الاجتماعية هي التي تمثل الإغراء الأكبر وتقود الموظف نفسه لاحقا وسط مجتمع المظاهر والنميمة الى ضمان مقعد ما في المستقبل

وتكفي هنا الإشارة الى أن مجرد وجود صلة بين أي شخص ورئيس وزراء، حتى وإن كانت شخصية أو سياسية الطابع، تدفع ذلك الشخص إلى الجنون التام عندما تشغر وظائف عليا، حيث يزوره الجميع، ويحاول توظيفه الجميع في إطار زحام على وظائف بلا مضمون إداري.
لا أعرف وصفة أيضا تجعلني أعتقد كمراقب بأن عملية تعيين 90 قياديا في عامين فقط انتهت، ونحن نتوقع نتائج إدارية أفضل حيث لا مقاربات ولا مواصفات ولا معايير من أي صنف يمكن مقايستها، وحيث لجان تعيين وزارية للوظائف العليا لا أحد يعلم بصورة محددة كيف تعمل.
وحيث ـ وهذا لم يعد سرا ـ إعلانات عن وظائف شاغرة مصاغة بطريقة تصلح لشخص محدد سلفا الأمر الذي كان يحصل في الماضي ولا يزال يحصل.
أشفق بالمقابل على كل من يتولى وظيفة عامة عليا أو دنيا فهو يكثر من الزيارات والمجاملات والوساطات ويساهم في هدر الثروة الحيوانية عبر إقامة موائد، ويناضل ويقاتل ويناور من أجل وظيفة راتبها الحقيقي لا يكفي لدفع نفقات البدلة التي يفترض أن يرتديها فيما يقضي سنوات الوظيفة، وهو يتعرض للعرقلة ومراكز القوى.
وتذوب هويته وملامحه الإدارية وهو يحاول إرضاء الجميع، بمن في ذلك أبطال الظل المتفوقون في بقية المؤسسات وأحيانا السيادية.
صاحبنا بصرف النظر عن الطريقة التي حصل بموجبها على الوظيفة العليا يغرق في المجاملات والحسابات ويهدر غالبية وقته وهو تحت الرقابة مرة من المسؤولين الأعلى منه، ومرات من هيئات المحاسبة ومكافحة الفساد وتثبيت النزاهة المنتشرة كالفطر، ومرات أيضا يهدر الوقت وهو يحاول تجنب الصفعات إما من المواقع والمنصات أو من الإعلام الرديء، وبالتالي رغم كل ما دفعه أو بذله للحصول على وظيفة ما، لن يجد وقتا لأي إنجاز من أي صنف في إطار واجبه البيروقراطي.
ذلك محزن ويحصل طوال الوقت، ليس فقط لأن مفهوم الخدمة الوطنية العامة غائب تماما عن فلسفة الوظائف العليا ولكن لأن ربطة العنق ولوحة السيارة والسائق المرافق والجاهات والوجاهات الاجتماعية هي التي تمثل الإغراء الأكبر وتقود الموظف نفسه لاحقا وسط مجتمع المظاهر والنميمة إلى ضمان مقعد ما في المستقبل ما بين سفارة أو غفارة أو وزارة أو عضوية في مجلس تشريعي هنا أو هناك.
مقبرة حقيقية للكفاءات ومدفن للمهنية والاحتراف مع حالة إدارية وشعبوية وسياسية مرهقة تجعل الإنتاجية آخر الهموم وحالة إدارية نادرة فكرتها إدارية بامتياز، ومن الصعب هزيمتها خصوصا مع تراكم الضعفاء المهنيين في بعض مواقع القرار برفقة مراهقين إداريين تكون وظيفتهم دوما الحرص على اختيار ما ينسجم مع مصالحهم من الموظفين وبالتالي طرد وإقصاء الكفاءات البيروقراطية الحقيقية التي كانت تميز الأردن والأردنيين منذ عقود.
حقائق إدارية مفجعة ومؤلمة فكرتها كانت ولا تزال تلك المحاصصة البغيضة في الوظائف والتي تجعل حالة الإدارة أشبه بثور الساقية.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من مدونة الكاتب بسام البدارين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading