اراء و مقالات

تساؤل في الأردن حول أيهما أهم: الانتباه لـ«المشككين» أم التركيز على «جدوى» وحدة الصف؟

رغيف الشعير في «أدبيات الطوفان»

عمان ـ «القدس العربي»: لا أحد يمكنه فهم الخلفية الأعمق للعبارة التراثية التي استعملها وزير الخارجية أيمن الصفدي بعنوان «رغيف الشعير.. مأكول ومذموم».
تلك عبارة مستهلكة جداً وأحياناً تقال بمناسبة وبدونها.
وهي بالتأكيد عبارة لا تنتمي إلى قاموس الأدبيات والإنشائيات الدبلوماسية خلافاً لأنها على الأرجح لا تعكس وقائع احترام الشعب الفلسطيني ولا الشعب الأردني الشديد للموقف الرسمي المتقدم إزاء مسارات ومآلات «طوفان الأقصى» الذي تتخذه المؤسسة الرسمية الأردنية. مفهوم أن الوزير الصفدي كان يعلق على رسالة مصدرها غير مهم تفبرك رواية عن أجهزة تجسس في مقر المستشفى العسكري الأردني الميداني في قطاع غزة، الذي كان في الواقع أول المستشفيات التي قصف جوارها بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.
في كل حال، عبارة رغيف الشعير الأردني المأكول والمذموم، كلاسيكية وتراثية جداً، والانطباع الأوسع أنها خارج السياق؛ ليس لأن مصدر الرسالة التي وصلت للصفدي لا يمكنه أن يكون مهماً أو صادقاً فقط، لكن لأن الخطاب الذي يتبناه أصلاً وزير الخارجية الأردني متميز للغاية ومتقدم جداً، لا بل ثمة قناعة راسخة بأنه خطاب يعبر عن الثوابت المرجعية الأردنية بمهنية وكفاءة، لأنه حقق بصمة في التصدي لأروقة المجتمع الدولي للسردية الإسرائيلية.

توازن إيجابي

إزاء جريمة دموية ومتكررة في قطاع غزة تهدد الأمن القومي للإقليم برمته، فإن احتمال بعض التعليقات والرسائل التي تشكك دون مبرر أخلاقي أو عملي في الموقف الرسمي الأردني، يصبح جزءاً من الاشتباك والمواجهة وتكلفة صغيرة على النخب الرسمية أن تستوعبها ولا تمنحها قيمة حقيقية مقابل التبديلات والتغييرات والوقائع والحقائق التي أسست لها اليوم حتى في عمق المشهد الأردني مقاربات وتداعيات الطوفان في غزة. مثل تلك المعلبات من العبارات، يمكن الاستغناء عنها.
الأردن يؤسس في الخطاب والأداء لثوابته، ولا ينتظر بدلاً لذلك التأسيس، الأمر الذي يعني أن عبارة معلبة مثل رغيف الشعير تتجاوزها مساحة التوحد النادر والاستثنائي اليوم بين الموقفين الرسمي والشعبي، وهي المساحة التي لا بد أن يستثمر فيها الجميع بوضوح مرحلياً وبجهد مخلص نقي لأسباب ليست فلسطينية فقط.
تخرج بين الحين والآخر عبارات نقدية أو استفهامية أو حتى مشككة بالمواقف الأردنية.

رغيف الشعير في «أدبيات الطوفان»

تلك إشارات لا قيمة حقيقية لها، ويفترض سياسيون كبار بينهم رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، أن التوقف عندها يمنحها قيمة دون مبرر وعلى أساس القناعة بأن وقائع التوازن في القطاع الرسمي اليوم تراعي مصلحة الدولة وتظهر احتراماً أكبر لموقف الشعب بصيغة يتقبلها الجميع. هذا التوازن الإيجابي هو الذي وافق عليه رئيس مجلس الأعيان المخضرم أيضاً فيصل الفايز، وهو ينتقد في جلسة خاصة بحضور «القدس العربي» الجرائم الإسرائيلية بوضوح لا يقبل الالتباس، مقترحاً على الأردنيين جميعاً مجدداً الاجتماع على قلب رجل واحد والوقوف خلف القيادة التي تدير المشهد اليوم بصورة تؤثر في المجتمع الدولي وفي معطيات الواقع الفلسطيني في مواجهة سردية الجريمة الإسرائيلية.
الفايز ورداً على استفسار من «القدس العربي» مباشرة، كان يعيد التأكيد على ثوابت الأردن وحراك الملك وما يقوله ويفعله وزير الخارجية، باعتباره ممثلاً للموقف الأردني دبلوماسياً، مقترحاً مجدداً دعم تلك المقاربة التي تحمي مصالح الدولة الأردنية وشعبها وهي تشتبك مع سردية تلك القوى الإسرائيلية أو الغربية التي تحالف معها، ومستذكراً لو أن المجتمع الدولي استمع مبكراً ومنذ سنوات لخبرة القيادة الأردنية وتحذيراتها ورسائلها لما واجه الجميع الأزمة الحالية والدماء.
الوضع في غزة ونتائج القصف الإسرائيلي الهمجي، كما وصفه الوزير الصفدي، لا يزال من المؤثرات الأساسية والعميقة في كل ميكانيزمات الدولة العميقة والمشهد الداخلي. والأردن إزاء حجم المعاناة ومستوى العدوان والخذلان العربي له وللفلسطينيين، من الطبيعي أن يتضرر أو يتم التشكيك بمواقفه هنا أو هناك.
ومن الطبيعي أن تنتج بضاعة رديئة أحياناً سواء مصدرها الذباب الإلكتروني في دول أخرى أو منشأ إسرائيلي بحت، أو حتى صادرة عن بعض الاجتهادات المحلية لمواطنين غاضبين من مختلف التكوينات السياسية. وهي بضاعة تحاول طبعاً تشويه مواقف الأردني شعباً وحكومة، وتستدعي بعض الملاحظات المقلقة هنا وهناك، لكنها ليست بالحجم والتأثير الذي يمكن المبالغة فيه أو التركيز عليه على حساب التركيز الوطني على ما هو أهم وأعمق من دلائل أردنية أساسية أفرزتها معركة الطوفان.

رسائل تحتاج لتركيز

أهم تلك الدلائل هو أن الشعب الأردني الذي تلتهمه أحياناً السلبيات والثرثرات، لا توحده قضية مثل القضية الفلسطينية. وبينها أن عملية استثمار عميقة تتجاوز كلاسيكيات ومعلبات وسرديات رغيف الشعير وحكايات ينبغي أن تنطلق وطنياً الآن، لأنه من الصعب جداً والمعقد ولادة لحظة مواتية أخرى تظهر حجم ذلك التفاعل والتوحد إزاء الاعتداء الإسرائيلي الهمجي بين الشعب ومؤسساته.
بين الرسائل أيضاً التي تحتاج إلى تركيز بعد الآن، تلك التي تقول باسم «طوفان الأقصى» وأهل غزة إن الخطر داهم بسبب الشراكة مع الإسرائيليين وانقلاباتهم على الجميع موسمياً، وبأنه آن الأوان -كما قال رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي وبحضور «القدس العربي»- لمراجعة كل الاتفاقيات.
يتفق الصفدي والفايز والمصري وغيرهم مع ما تقترحه «القدس العربي» في النقاشات والمجالسات من أن المرحلة تتطلب الإجابة أردنياً ووطنياً، عن سؤالين: هل قرأ العمق الأردني 7 أكتوبر وما بعدها بكفاءة؟ وماهي الخطوات الأردنية العميقة التي ينبغي أن تتخذ الآن وفوراً؟
في الخلاصة، أثناء الاستجابة التكتيكية والاستراتيجية التي عرفت بها الخبرة الأردنية للإجابة على سؤالين عالقين، يمكن إظهار قدر من الصبر والاحتمال لموجات التشكيك السطحية المحدودة بين الحين والآخر.
ويمكن إظهار قدرة على احتواء تصرفات شاذة صغيرة هنا أو هناك من غاضبين أو حتى من مندسين. وباختصار، ثمة ما هو أعمق وأهم وأخطر من استدعاء ذكريات حزينة لها علاقة بتراثيات رغيف الشعير المأكول المذموم.. هنا مربط الفرس.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى