اراء و مقالات

«نبأ عاجل»: ديناصورات أم «حملان» في الأردن؟

النبأ العاجل يقصف وبقوة ويلاحق الجميع ويترصدهم، وفيما تسقط حسابات المهنية ممن يحيك أو ينتج النبأ العاجل يسقط أيضا حساب القراءة عند المشاهد، فلا أحد يتوقف أثناء الاحتكاك مع الكلمات القصيرة عند سؤال الظرف أو المقدمة أو السياق

لا يحتاج الأمر لأكثر من صبي متسرع على بلاط الصحافة أو الإعلام أو حتى منتحل أو منتحلة أو فضولي برفقة جهاز خلوي صغير ثمنه قد لا يزيد عن مئة دولار، فقط تلك هي الاحتياجات لإثارة زوبعة وأزمة في مشهد متواصل بالفطرة والسليقة وبسرعة مثل المشهد الأردني.
كلمة أو عبارة أو مزحة أو حتى إيماءة سرعان ما تتحول إلى “نبأ عاجل” من ذلك الطراز اللعوب أو المضلل، وخلال لحظات يصدر العاجل بدون فلاتر فيصبح وطنيا، أو حتى كونيا ليس لسبب علمي محدد ولكن لأن المواطن بطبيعته جالس على منصات التواصل والتفاعل الإلكتروني طوال الوقت. ربة المنزل تعمل في بيتها أو تطهو الطعام وهي على التواصل مع فيسبوك أو توتير. المعلم والموظف والبائع والمشتري… الكل يتابع.
هوس استثنائي يمارس بالفطرة وحتى أثناء قيادة السيارة. صيغة العاجل تترصد بالصغير والكبير، لكن مستوى الانفعال التواصلي يزيد عندما يتعلق الأمر بشخصية عامة، حيث سرعة انتشار العاجل توحي للمراقب وكأن الشعب برمته بانتظار الخبر ويتداوله بسرعة.
الكل يقرأ والكل يعيد تسويق النبأ والكل يفتي ويكتب وينشر وعلى جميع المنصات وبدون أدنى تدقيق حتى أن صاحب المضمون بصرف النظر عن هويته، سرعان ما يصبح ضحية لذلك الالتقاط المتسرع وقبل أن يرتد رمشه فيما تزداد كلفة وفاتورة توضيح الحقيقة.
على كل حال النبأ العاجل يترصد بالكبار والصغار بين الأردنيين، وتسقط رواية السلطة والحكومة فورا، بسبب الهوس بالأيقونة الأردنية التي ترافقها تلك العبارة المربكة الساحرة باسم العاجل.

النبأ العاجل يقصف وبقوة ويلاحق الجميع ويترصدهم، وفيما تسقط حسابات المهنية ممن يحيك أو ينتج النبأ العاجل يسقط أيضا حساب القراءة عند المشاهد، فلا أحد يتوقف أثناء الاحتكاك مع الكلمات القصيرة عند سؤال الظرف أو المقدمة أو السياق

كنت بمعية عشرات الزملاء عندما تحدث رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري في أمسية نقابة الصحافيين الرمضانية. حقا بدا المشهد مضحكا عندما يراقب الجميع الجميع وأعلم مسبقا بأن خروج أي زميل فجأة يعني حياكة عاجل جديد، فالناس تترك المتحدث والموضوع وتلتقط مفردة هنا أو إيماءة هناك لتصبح مادة دسمة.
لم يقل متحدثنا الضيف في تلك الأمسية معظم أو غالبية ما نقل عنه تحت بند العواجل كما قيل فعلا لأن النبأ العاجل يتشكل أصلا من سبع كلمات، وفي عالم الإعلام البديل اليوم تلتقط هذه الكلمات دون إشارة لما سبقها أو أعقبها.
وبالتالي النبأ العاجل يقصف وبقوة ويلاحق الجميع ويترصدهم، وفيما تسقط حسابات المهنية ممن يحيك أو ينتج النبأ العاجل يسقط أيضا حساب القراءة عند المشاهد أو المتابع، فلا أحد يتوقف أثناء الاحتكاك مع الكلمات القصيرة عند سؤال الظرف أو المقدمة أو السياق.
قراءة عدمية بامتياز تعلي من شأن الاجتزاء وتعيد تغليف وتعليب الأفكار المسمومة وقراءة تمسك بتلابيب الأطراف ولا تقرأ النص باعتباره وحدة واحدة كما يحصل في محاكم القضاء المستقل والنزيه.
أمراض تواصلية بالجملة من الصعب اليوم إنكارها، ولا بد أحيانا من تحمل كلفتها لأن من ينشر أو يقرأ لا ينتبه أو لا يريد الانتباه لضرورة التصرف بموضوعية تجاه السياق.
أشفق طبعا على سياسيي عمان القدماء الذين تصطادهم الأخبار العاجلة تلك، فتلوكها الألسن ويرددها العامة وتتوتر السلطة بسببها، وسرعان ما تتحول إلى أزمة وطنية يشارك الجميع بحفلتها.
أشفق على هؤلاء أيضا لسبب إضافي، فالناس توجه الملامة لأي سياسي أو رئيس وزراء متقاعد تحديدا وتقصفه بكل الاتهامات، لأنه لا يتحدث للناس والشعب عن تلك الحقائق التي يفترض أصحاب الصوت المرتفع أنها تحصل ضد الشعب.
وإذا تحدث سياسي معتدل ووازن بروح وطنية يمكن لشلة الأنس إياها التي تحتكر الوطن والولاء، أن تشوه القائل أو المتحدث وتحرف ما قاله أيضا مثل العامة عن سياقه، وتعيد إنتاج ما قيل باعتباره تحرشا في الدولة أو ولادة معارض جديد، وأحيانا باعتباره تغريدا خارج سرب الولاء والانتماء وتصفيق خارج الحلبة وانضمام لحلقة المشككين المشوهين.
كنا قد انتقدنا تحديدا رؤساء الوزارات السابقين لأنهم يحتجبون أو لأنهم ينشغلون بجاهات الأعراس والمصالحات العشائرية. ونلومهم لأنهم سلبيون ولا يتكلمون، وإذا تكلموا يصطادهم المجتمع بالنقد والتجريح، وأحيانا بالاتهام وتتلقفهم خلويات العاجل، وسرعان ما يصنفهم ضعاف الولاء في الإدارة وأصحاب الوظائف والمكاسب بصفتهم قد انضموا حديثا لشريحة إما الديناصورات التي لا يعجبها التحديث والإصلاح أو شريحة من يحاولون إعاقة المسيرة حتى وهي غير موجودة في بعض الملفات. كأن المطلوب تحول “المتقاعد” إلى مجتمع “الحملان الصامتة”.
أسهل وصفة يصرفها من يتحكمون بدوائر القرار اليوم لسياسي متقاعد هي تلك التي تلصق صفة “عدو الدولة” والنظام بمن يتحدث أو يقول رأيه من كبار السياسيين والقدماء.
أشفق على الشخصية العامة التي تحترم الدولة والناس ونفسها في الأردن… لا يسمع لها أصلا في دوائر القرار ويتم تهميشها والناس تجلدها لأنها لا تتحدث ثم لأنها تتكلم فيما يتسلى محترفو الصيد الإلكتروني بهم وبالدولة والناس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى