اراء و مقالات

الأردن بين «فصام النخبة» وعدمية التوقع

عمان – «القدس العربي» : يطرح أحد المشاركين في قاعة الاجتماعات التابعة لنقابة الصحافيين على رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، سؤالاً خارج التوقع تماماً.
يقول: نحن في مأزق كبير.. نظامنا ودولتنا أسرى لمعادلات الإقليم والدول الغربية، ونحن أسرى كشعب للنظام، ما الذي يمكننا فعله… دولة الرئيس، نحبك ونحترمك، ماذا تقترح على شعبنا؟
سؤال على شكل «لغم سياسي» يعكس مرارة المراقب الأردني الحريص على وطنه، ودوافعه ليست انقلابية ولا معارضة بالتأكيد، بقدر ما هي تشخيصية ووطنية وفيها قدر من مرارة المواطن الإنسان، وتعكس حجم الأزمة والمأزق.

جملة دبلوماسية هادئة

اعتقاد بعض الحضور للندوة السياسية التي تحدث فيها المصري باستضافة نقابة الصحافيين مساء السبت، بأن السؤال اللغم إياه بريء الدوافع، وإن كان صاخباً جعل الجميع يصمت لفترة قليلة، بما في ذلك المتحدث الرئيسي في الندوة، الذي بادر بعد الصمت لمحاولة تبديد حالة سكون مؤقتة تعني الكثير، لأن الجواب أيضاً ينطوي على لغم أكبر.

«وين بدكن أنام الليلة؟»… مزحة طاهر المصري ورسائلها

هنا تحديداً وفي الاشتباك والترقب الذي استمر لثوانٍ معدودات، حاول المصري الإفلات من مأزق السؤال بجملة دبلوماسية هادئة جداً وباللهجة العامية، قائلاً لمن سأل: «وين بدكن إياني أنام الليلة؟».
طبعاً، كانت تلك دعابة كسرت حدة الصمت والسؤال من شخصية محنكة ووطنية وتحظى بالتوافق، لكن الرد على السؤال بسؤال أبسط وساخر قليلاً أو كوميدي سياسياً، يفخخ لغماً بالمقابل، ويظهر حجم ومستوى الضيق الرسمي عموماً كما يلمس مخضرم مثل المصري من الرأي الصريح والأسئلة الحرجة. وبعد الاستدراك، قدم المصري الإجابة التي تنسجم مع مواصفات خطابه المعتدل التحفيزي، مقترحاً على الشعب الأردني الاستمرار في الضغط من أجل المطالبة بالديمقراطية والإصلاح السياسي والتغيير الإيجابي بعيداً عن أي انقلاب على الدولة والنظام والحكم، ومشدداً على أن سؤال الشرعية غير مطروح، وبالتالي الخطة التي اقترحها الرجل بين اللغمين هي تلك التي تقول مجدداً «نعمل معاً مع النظام والدولة وفي ظلهما».
إجابة المصري الأوضح على سؤال يحير الأردنيين جميعاً هذه الأيام تشبهه كثيراً؛ فقد كان للتو يرد على إعلامية تحدثت عن فروقات الخطاب بين الوظيفة وخارجها، بالتأكيد على أنه شخصياً، وبعد نصف قرن من الدور والوظيفة العامة في المملكة كان يقول رأيه دائماً وراء الستارة وأمامها مع التلميح؛ لأنه أحياناً دفع ثمن ذلك.
لكن المصري بنعومته المعهودة لفت انتباه الحضور إلى أن هواجس الخطر على الأردن موجودة لا شك في الأمر، لكن الخطر الأكبر هو إسرائيل وطموحها ومشروعها بعد تصفية القضية الفلسطينية. في الأثناء، كانت دعابة المصري تثير جدلاً وتظهر حجم الارتباك بالوقت نفسه. أحد الإعلاميين الحاضرين همس في أذن «القدس العربي» التي تواجدت في المشهد، مشيراً إلى أن المسألة ليست دعابة، فاحتمالية قبول الرأي تضيق في الأردن، وأضاف: «ثمة أوغاد في التواصل يمكنهم تشويه ما يقوله رجل مثل المصري».
بصرف النظر عن جذر ودلالة تلك الدعاية، ينضم المصري مجدداً إلى طبقة من كبار السياسيين القدماء قررت علناً الاشتباك ووجدت بأن واجبها الوطني يحتمل قول الرأي الآن، بصرف النظر عن النتائج والتداعيات. ويحذر المصري منذ سنوات من كلف وفاتورة تمكين المشروع الإسرائيلي من تصفية القضية الفلسطينية على الأردن والأردنيين.

«الأردن في خطر»

وفي المحليات يقولها الرجل دوماً وسمعتها «القدس العربي» مباشرة منه عدة مرات: نعم، الأردن في خطر.. نعم، أحياناً لا يوجد من يسمعنا.. نعم، المأزق كبير. ونعم، إسرائيل هي عدو الأردنيين شعباً وحكماً. لماذا قالها المصري في حضن نقابة الصحافيين تحديداً؟ إنه سؤال ظرفي.
لكن الإجابة عليه واضحة الملامح ويتلمسها الجميع، وما يبدو عليه المشهد عموماً أن مستوى قلق طبقة رجال الدولة في عمان ارتفع على نحو واضح، وأن أزمة الأدوات كما يقول السياسي الدكتور ممدوح العبادي، بدأت تطرق بقوة وفي المفاصل، حيث لا نظرية في الإدارة اليوم ولا نخـب.
قال المصري ما قاله وسط الصحافيين، ثم انشغلت الماكينة الموسمية المعتادة فوراً بتشويه ما قيل، أو تحريفه أو إخراجه عن سياقه، وهو ما حصل في الجدل المثار قبل أيام قليلة عندما تعلق الأمر بالمنقول في إحدى الندوات عن رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز. وقبل الفايز، كان رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، أول أشرس من عارض علناً التعديلات الدستورية الأخيرة. واعتبر مجلس الأمن القومي الجديد سلطة بديلة عن السلطة التنفيذية.
وقبل الجميع، رسم الرئيس عبد الكريم الكباريتي حدوداً مختلفة للاشتباك عندما تحدث علناً أيضاً عن ثرثرة على ضفاف الحقيقة في الإصلاح، وعن قارب الوطن الذي تتقاذفه الأمواج. فهل يشاغب مثل هؤلاء فقط؟ ما الذي يدفع كبار رموز الطبقة لمثل هذه الجملة المعترضة والتشخيصية الخارجة عن المألوف فجأة؟
سؤالان بحجم المأزق الذي يشعر به الجميع. وفقط على جبهة رئيسي الوزراء الحالي بشر الخصاونة والسابق سمير الرفاعي، ثمة معنويات مرتفعة قياساً بالآخرين في النادي. وهو ما لمسته «القدس العربي» عدة مرات مباشرة على أساس أن المستقبل أفضل ودون إنكار المشكلات والتحديات، وعلى أساس أن الإرادة السياسية تعممت انطلاقاً من رؤية جديدة تحت عنوان تحديث المنظومات في الدولة، وكل المطلوب الآن الدعم والإسناد والاستثمار في الفرصة بدلاً من الإغراق في كلاسيكيات التردد وعدميات التوقع السلبي.
الانقسام وصل حد الفصام أحياناً بين أعضاء نادي النخبة الأردنية.
المواطن عالق بين الجميع، ومعه تعلق أحياناً مؤسسات الدولة.
لكن منجزات الصلابة والصمود رغم التحديات الضخمة، إنكارها ليس منتجاً مرحلياً؛ لأنه يخدم تلك الشريحة من الموظفين والسياسيين التي تكرس الإنكار أصلاً لما يحصل في الواقع.
باختصار وفي الخلاصة، سهرة المصري الرمضانية مع الصحافيين رسالة ينبغي أن تقرأ بعناية، لأنها قد تكون التعبير الأدق عن الولاء الحقيقي غير المسموم إذا ما تم تفكيك أحرفها وحيثياتها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى