اراء و مقالات

«باندورا» تنكأ «الجرح الاستشاري – المهني» الأردني مجدداً: أين السفارات و«الأدوات»؟

عمان- «القدس العربي»: البصمة التي رافقت موجة وثائق باندورا الشهيرة الآن يفترض أن تؤسس لانطباعات جديدة ولو من باب الاستدراك عندما يتعلق الأمر بالمعطيات الداخلية والسياسية الأردنية، مع أن الحصة الأردنية في تلك الوثائق لا تبدو مترابطة، وهي أقرب إلى حالة تفكيك، ولا تقدم جديداً باستثناء إثارة الغبار والإيحاء بسرديات سلبية ضد الأردن.
في كل حال، وبشكل ملحوظ، تجاهل الرأي العام الأردني تلك الوثائق وما أثارته من غبار، وتعاملت المؤسسة الرسمية بقدر بسيط من الشفافية في الاشتباك والتعاطي، دون أن يمنع ذلك طرح أسئلة حرجة تحتاج اليوم إلى إجابة في نطاق الحفر عميقاً بظاهرة استهداف الأردن، خصوصاً من وسائل إعلام عالمية كان الرأي العام عموماً تحت انطباع أنها حليفة أو صديقة، أو تأسست حالة من التفاهم معها وبقيت إيجابية تجاه الأردن لسنوات طويلة، قبل أن تتحول اليوم إلى وسائل إعلام متصيدة، لا بل تحترف تسليط الأضواء على سلبيات سردية ضد الأردن، واضح أنها تتغذى على حالة الإحباط العام في البلاد، وتجد بعض الأردنيين -خصوصاً تحت ستار ما يسمى بمعارضة الخارج- متحمسين لإبقاء الجدل حولها.
تجاهل الشارع الأردني بوضوح وثائق باندورا وشقيقاتها، وظهر بأن تفاعله أقرب للتسلية بتلك القصص والحكايات حول المشاهير. لكن في منطقة أعمق قليلاً وسط نخبة السياسة وخبراء العمق الإعلامي، ثمة أسئلة لا بد من الإجابة عليها وطنياً ومن الصعب تجاهلها، الأمر الذي يبدو جلياً أن مؤسسة القرار الأردني اليوم تقلب صفحاتها وتعيد استعراض أوراقها وحيثياتها.

لماذا الآن؟ ولماذا الأردن؟

سؤالان هما الأكثر طرحاً في عمق المؤسسات الأردنية، أفرزتهما حالة مهنية غير مفهومة بعد، قوامها مبالغات وسائل إعلام عالمية ودولية يعتد بها في نشر مساحات واسعة للجزء المتعلق بالأردن في وثائق باندورا.
والحديث هنا عن صحف عريقة وإذاعات أعرق، مثل واشنطن بوست والجارديان والبي بي سي وال سي ان ان .. تلك منابر إعلامية كانت مصنفة في الماضي دوماً في سياق الصداقة مع الأردنيين، لا بل في سياق إمكانية التفاعل الإيجابي معها على أساس الحياد والموضوعية، لكن تلك المسألة تغيرت الآن، وزادت حدة التغير منذ الرابع من نيسان/ابريل الماضي، وبعد سلسلة سرديات ومبالغات لها علاقة بما سمي آنذاك بملف الفتنة والانقلاب.
لا يوجد في عمق مؤسسات القرار الأردنية موظفون أو مسؤولون بكفاءة خاصة، قادرون على الاشتباك مع الإعلام الدولي.
والإعلام الرسمي الأردني غارق تماماً بالديون والاشكالات وغياب المبادرات، وليس في موقع الاشتباك في أي صيغة خلافاً لأنه غائب تماماً عن الإيقاع، كما يلاحظ كمراقب سياسي مثل مروان الفاعوري، وهو يرصد بأن الإعلام الرسمي في حالة موت سريري، والروايات السلبية في الإعلام الدولي تتراكم دون توفير طاقة للرد والمتابعة والتعليق والاشتباك.
يشعر الجميع اليوم بغياب إستراتيجية وطنية للإعلام في الأردن تثبت التداعياتُ أهميتَها وضروريتَها، وهو أمر أفاد وزير الاتصال المعني صخر دودين، أمام «القدس العربي» ولاحقاً في حفل أقامته الخميس نقابة الصحافيين عدة مرات، بأنه من المسائل التي تشغل الحكومة وتعمل عليها اعتباراً من آذار/ مارس الماضي.

أوراق مشروع… وإنذار

لكن في السفارتين الأردنيتين في واشنطن ولندن تحديداً، وفي أقرب جهاز استشاري لمركز القرار والديوان الملكي، يشعر الجميع بغياب المبادرات وعدم وجود دوائر مهنية مختصة تناور أو ترد أو تحتوي عندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الدولية.
وتلك حقيقة لم يعد إنكارها منتجاً في ظل الإرهاق الذي تسببه أو الإحباط الذي تنتجه للأردنيين عامة تلك القصص والسرديات السلبية، خصوصاً أن نحو 12 ناشطاً أردنياً في الخارج صنفوا أنفسهم باعتبارهم معارضة يصطادون ويعيدون إنتاج القصص ويظهرون متفرغين لمهمة إقلاق راحة الدولة والناس في الأردن، دون أن تتضح بعد أي ملامح لاستراتيجية حقيقية في التعامل مع هذا المستجد الذي لم يعتد عليه الأردنيون في الماضي.
ثمة أوراق مشروع سمي بإعادة هيكلة منظومة الإعلام الوطني الأردنية أشرف عليه في الماضي المستشار المعني بالإعلام والاتصال سابقاً، واسمه الدكتور كمال الناصر.. بعد سلسلة اجتماعات فنية لا أحد يعلم اليوم أين ذهبت أوراق ذلك المشروع، وفي الواقع لا أحد يعلم أين المستشار نفسه الذي أشرف على عملية لم تنضج ولم تنته.
في كل حال، لا تظهر أي مبادرات على صعيد التصدي للروايات السلبية التي تتوسع وتنتشر وتظهر بين الحين والآخر ضد الحالة الأردنية حتى بعد تغيير بعض الأطقم والاستعانة برموز جديدة في مفاصل القرار والاستشارات في مكاتب القصر الملكي، فيما لا يبدو أن الحكومة متفرغة لأكثر من التعامل بالقطعة، وأحياناً فقط عندما تبرز إشكالية بتوقيع وسائل الإعلام.
الإخفاق كبير، ويقر به الجميع حتى في المستويات الأمنية المحلية عندما يتعلق الأمر بغياب قواعد الاشتباك المنتج مع الإعلام الدولي والإعلام الداخلي أيضاً.
لكن مخاسر ما بعد تسريبات «باندورا»، رغم ضحالتها في المعلومة ومؤشرات التضليل فيها، قد لا تكون ظهرت بعد، برأي خبراء ومراقبين؛ فهي تلحق ضرراً على نحو أو آخر، والاستهانة به لا يمكنها أن تشكل استراتيجية اشتباك، والتساؤلات التي تطرح في العمق لها علاقة اليوم بمستوى تأثير مثل هذه التسريبات على قدرات الأردن مستقبلاً في بناء نمط من المصداقية له علاقة ببقاء حالة الدعم الاقتصادي الدولية.
تلك من الأضرار الجانبية المثيرة، لكن غياب الاستراتيجية والأدوات التي يمكن أن تديرها مسألة واضحة الملامح، وقد تشكل التحدي الأساسي؛ فقد قرع جرس الإنذار ضد سمعة الأردن ومصالحه ببعض مؤسسات الإعلام العالمية من شهر نيسان الماضي، ولم يلاحظ أحد أن غرفة عمليات تشكلت على سبيل المثال بالمستوى المهني الإعلامي، ولم تدخل عناصر فاعلة جديدة، ولم تشكل خلايا أزمة حقيقية، بل العكس؛ فقد ظهر الارتجال، وبرزت خطوات عشوائية من الحكومة وغيرها من المؤسسات تحولت لاحقاً إلى عبء على الرواية الأردنية نفسها، كما حصل في البيان الشهير الصادر عن وزير الخـارجية بشأن الفـتنة إياها قبل ستة أشـهر.
«باندورا» على هذا الأساس صدمت النخب الأردنية بالتأكيد، وتدفع في اتجاه المراجعة في بعض المفاصل والتعاطي مع تكتيك يقضي بتقليل الخسائر فقط، لكن تقصير الأدوات من الصعب إنكاره اليوم. وما حصل في ملفي الفتنة ثم وثائق باندورا، دليل إضافي على أن الحاجة ملحة لإصلاح منظومة الإعلام برمتها، وليس فقط المنظومة السياسية أو الأمنية. وهنا، رسمياً، تكمن المشكلة والكلفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى